ومع ذلك ، فلهم موعد يجمع به أولهم وآخرهم ، ومن أصيب في الدنيا منهم ، ومن متع بلذاته ، ولهذا قال : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } الذي يحازون به ، ويؤخذ منهم الحق بالقسط ، { وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } أي : أعظم وأشق ، وأكبر من كل ما يتوهم ، أو يدور بالبال{[940]} .
ثم بين - سبحانه - أن هزيمة المشركين ستعقبها هزيمة أشد منها ، وأنكى فقال : { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ } .
والمراد بالساعة ، يوم القيامة " وأدهى " : اسم تفضيل من الداهية ، وهى الأمر المنكر الفظيع الذى لا يعرف طريق للخلاص منه .
وقوله { وَأَمَرُّ } أى : وأشد مرارة وقبحا . أى : ليس هذا الذى يحصل لهم فى الدنيا من هزائم نهاية عقوباتهم ، بل يوم القيامة هو يوم نهاية وعيدهم السيىء ، ويوم القيامة هو أعظم داهية ، وأشد مرارة مما سيصيبهم من عذاب دنيوى .
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف ، أن ابن جُرَيج أخبرهم : أخبرني يوسف بن ماهَكَ قال : إني عند عائشة أم المؤمنين ، قالت : نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة - وإني لجارية ألعب - { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } هكذا رواه ها هنا مختصرا {[27797]} . ورواه في فضائل القرآن مطولا {[27798]} ، ولم يخرجه مسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسّاعَةُ أَدْهَىَ وَأَمَرّ * إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسّ سَقَرَ * إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم بَل السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ للبعث والعقاب وَالسّاعَةُ أدْهَى وأمَرّ عليهم من الهزيمة التي يهزمونها عند التقائهم مع المؤمنين ببدر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عمرو بن مرّة ، عن شهر بن حوشب ، قال : إن هذه الاَية نزلت بهلاك إنما موعدهم الساعة ، ثم قرأ أكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ . . . إلى قوله : والسّاعَةُ أدْهَى وأمَرّ .
و : { أدهى } أفعل من الداهية : وهي الرزية العظمى تنزل بالمرء . { وأمرّ } من المرارة ، واللفظة ليست هنا مستعارة ، لأنها ليست فيما يذاق .
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أنهم في الدنيا في حيرة وإتلاف وفقد هدى وفي الآخرة في احتراق وتسعر من حيث هم صائرون إليه ، قال ابن عباس المعنى : في خسران وجنون ، والسعر الجنون .
{ بل } للإِضراب الانتقالي ، وهو انتقال من الوعيد بعذاب الدنيا كما حل بالأمم قبلهم ، إلى الوعيد بعذاب الآخرة . قال تعالى : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون } [ السجدة : 21 ] ، وعذاب الآخرة أعظم فلذلك قال : { والساعة أدهى وأمر } وقال في الآية الأخرى { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [ طه : 127 ] وفي الآية الأخرى { ولعذاب الآخرة أخزى } [ فصلت : 16 ] .
و { الساعة } : علم بالغلبة في القرآن على يوم الجزاء .
والموعد : وقت الوعد ، وهو هنا وعد سوء ، أي وعيد . والإِضافة على معنى اللام أي موعد لهم . وهذا إجمال بالوعيد ، ثم عطف عليه ما يفصّله وهو { والساعة أدهى وأمر } . ووجه العطف أنه أريد جعله خبراً مستقلاً .
و { أدهى } : اسم تفضيل من دهاه إذا أصابه بداهية ، أي الساعة أشد إصابة بداهية الخلود في النار من داهية عذاب الدنيا بالقتل والأسر .
وأمرُّ : أي أشدّ مرارة . واستعيرت المرارة للإحساس بالمكروه على طريقة تشبيه المعقول الغائب بالمحسوس المعروف .
وأعيد اسم { الساعة } في قوله : { والساعة أدهى } دون أن يؤتي بضميرها لقصد التهويل ، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسيرَ مسيرَ المثَل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أوعدهم، فقال: {بل الساعة} يعني يوم القيامة {موعدكم} بعد القتل {والساعة} يعني والقيامة {أدهى} يعني أفظع {وأمر} من القتل يقول: القتل يسير ببدر، ولكن عذاب جهنم أدهى وأمر عليهم من قتل بدر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم" بَل السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ "للبعث والعقاب.
"وَالسّاعَةُ أدْهَى وأمَرّ" عليهم من الهزيمة التي يهزمونها عند التقائهم مع المؤمنين ببدر.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أعظم بليّة وأشدّ مرارة من عذاب يوم بدر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(والساعة أدهى وأمر) فالأدهى الأعظم في الدهاء، والدهاء عظم سبب الضرر مع شدة انزعاج النفس وهو من الداهية... والداهية: البلية التي ليس في إزالتها حيلة، والمراد ما يجري عليهم من القتل والأسر عاجلا لا يخلصهم من عذاب الآخرة، بل عذاب الآخرة أدهى وأمر.
والأمَر: الأشد في المرارة، وهي ضرب من الطعم به يكون الشيء مرا. ويحتمل الأمر الأشد في استمرار البلاء، لأن الأصل التمرر. وقيل مرارة لشدة مرورها وطلبها الخروج بحدة. وقيل: الأمر الأشد مرارة من القتل والأسر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أدهى} أشدّ وأفظع. والداهية: الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه.
والظاهر أن الإنذار بالساعة عام لكل من تقدم، كأنه قال: أهلكنا الذين كفروا من قبلك وأصروا وقوم محمد عليه السلام ليسوا بخير منهم فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة فإتمام المجازاة بالأليم الدائم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{بل} للإِضراب الانتقالي، وهو انتقال من الوعيد بعذاب الدنيا كما حل بالأمم قبلهم، إلى الوعيد بعذاب الآخرة. قال تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} [السجدة: 21]،و {أدهى}: اسم تفضيل من دهاه إذا أصابه بداهية، أي الساعة أشد إصابة بداهية الخلود في النار من داهية عذاب الدنيا بالقتل والأسر. {والساعة أدهى} دون أن يؤتي بضميرها لقصد التهويل، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسيرَ مسيرَ المثَل.