مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ} (46)

ثم قال تعالى : { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم بل الأمر أعظم منه فإن الساعة موعدهم فإنه ذكر ما يصيبهم في الدنيا من الدبر ، ثم بين ما هو منه على طريقة الإصرار ، هذا قول أكثر المفسرين ، والظاهر أن الإنذار بالساعة عام لكل من تقدم ، كأنه قال : أهلكنا الذين كفروا من قبلك وأصروا وقوم محمد عليه السلام ليسوا بخير منهم فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا ، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة فإتمام المجازاة بالأليم الدائم . وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ما الحكمة في كون اختصاص الساعة موعدهم مع أنها موعد كل أحد ؟ نقول : الموعد الزمان الذي فيه الوعد والوعيد والمؤمن موعود بالخير ومأمور بالصبر فلا يقول هو : متى يكون ، بل يفوض الأمر إلى الله ، وأما الكافر فغير مصدق فيقول : متى يكون العذاب ؟ فيقال له : اصبر فإنه آت يوم القيامة ، ولهذا كانوا يقولون : { عجل لنا قطنا } وقال : { ويستعجلونك بالعذاب } .

المسألة الثانية : أدهى من أي شيء ؟ نقول : يحتمل وجهين أحدهما : ما مضى من أنواع عذاب الدنيا ثانيهما : أدهى الدواهي فلا داهية مثلها .

المسألة الثالثة : ما المراد من قوله : { وأمر } ؟ قلنا : فيه وجهان ( أحدهما ) : هو مبالغة من المر وهو مناسب لقوله تعالى : { فذوقوا عذابي } وقوله : { ذوقوا مس سقر } وعلى هذا فأدهى أي أشد وأمر أي آلم ، والفرق بين الشديد والأليم أن الشديد يكون إشارة إلى أنه لا يطيقه أحد لقوته ولا يدفعه أحد بقوته ، مثاله ضعيف ألقى في ماء يغلبه أو نار لا يقدر على الخلاص منها ، وقوي ألقي في بحر أو نار عظيمة يستويان في الألم ويتساويان في الإيلام لكن يفترقان في الشدة فإن نجاة الضعيف من الماء الضعيف بإعانة معين ممكن ، ونجاة القوي من البحر العظيم غير ممكن ( ثانيهما ) : أمر مبالغة في المار إذ هي أكثر مرورا بهم إشارة إلى الدوام ، فكأنه يقول : أشد وأدوم ، وهذا مختص بعذاب الآخرة ، فإن عذاب الدنيا إن اشتد قتل المعذب وزال فلا يدوم وإن دام بحيث لا يقتل فلا يكون شديدا ( ثالثها ) : أنه المرير وهو من المرة التي هي الشدة ، وعلى هذا فإما أن يكون الكلام كما يقول القائل : فلان نحيف نحيل وقوي شديد ، فيأتي بلفظين مترادفين إشارة إلى التأكيد وهو ضعيف ، وإما أن يكون أدهى مبالغة من الداهية التي هي اسم الفاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه ، وهو أمر صعب لأن الداهية صارت كالاسم الموضوع للشديد على وزن الباطية والسائبة التي لا تكون من أسماء الفاعلين ، وإن كانت الداهية أصلها ذلك ، غير أنها استعملت استعمال الأسماء وكتبت في أبوابها وعلى هذا يكون معناه ألزم وأضيق ، أي هي بحيث لا تدفع .