وقوله - تعالى - : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى } بيان لثمرة هذا السعى الصالح يوم القيامة .
أى : ليس للإنسان إلا ثمرة عمله الصالح بدون زيادة أو نقص ، وهذا العمل الصالح سوف يراه مسجلا أمامه فى صحف مكرمة ، وفى ميزان حسناته ، ثم يجازيه الله - تعالى - عليه الجزاء التام الكامل . الذى لا نقص فيه ولا بخس .
وفى رؤية الإنسان لعمله الصالح يوم القيامة ، تشريف وتكريم له ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } هذا ، وقد توسع العلماء فى الجمع بين قوله - تعالى - : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } وبين النصوص التى تفيد أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره ، وهذه خلاصة لأقوالهم :
قال الإمام ابن كثير : ومن هذه الآية استنبط الشافعى ومن اتبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتة .
لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء .
فأما الدعاء والصدقة ، فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما .
وأما الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به " . فهذه الثلاثة فى الحقيقة . هى من سعيه وكده وعمله .
وقال الجمل فى حاشيته على الجلالين : واستشكل الحصر فى هذه الآية { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } بقوله - تعالى - فى آية أخرى : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ . . } وبالأحاديث الواردة فى ذلك كحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث . . . " .
وأجيب : بأنها مخصوصمة بقوم إبراهيم وموسى ، لأنها حكاية لما فى صحفهم ، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هى ، وما سعى لها غيرها ، لما صح من أن لكل نبى وصالح شفاعة . وهو انتفاع بعمل الغير ، ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة واجتماع الأمة ، وحينئذ فالظاهر أن الآية عامة ، قد خصصت بأمور كثيرة . .
ثم قال الشيخ الجمل - رحمه الله - : وقال الشيخ تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله . فقد خرق الإجماع . وذلك باطل من وجوه كثيرة :
أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره . وهو انتفاع بعمل الغير .
ثانيها : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف فى الحساب ثم لأهل الجنة فى دخولها .
ثالثها : أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الكبائر فى الخروج من النار ، وهذا انتفاع بسعى الغير .
رابعها : أن الملائكة يستغفرون ويدعون لمن فى الأرض ، وذلك منفعة بعمل الغير .
خامسها : أن الله - تعالى - يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط - أى من المؤمنين - بمحض رحمته ، وهذا انتفاع بغير عملهم .
سادسها : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير .
سابعها : قال الله - تعالى - فى قصة الغلامين اليتمين :
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } فانتفعا بصلاح أبيهما ، وليس من سعيهما .
ثامنها : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعتق ، بنص السنة والإجماع ، وهو من عمل الغير .
تاسعها : أن الحج المفروض يسقط عن الميت ، بحج وليه بنص السنة ، وهو انتفاع بعمل الغير .
حادى عشر : المدين قد امتنع - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر على بن أبى طالب ، وانتفع بصلاة النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو من عمل الغير .
ثانى عشر : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلى وحده : " ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه " فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير .
ثالث عشر : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الغير ، إذا قضاها عنه قاض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .
رابع عشر : أن من عليه تبعات ومظالم ، إذا حلل منها سقطت عنه ، وهذا انتفاع بعمل الغير .
خامس عشر : أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير .
سادس عشر : أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير .
سادس عشر : أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ، وهو لم يكن معهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له ، والأعمال بالنيات ، فقد انتفع بعمل غيره .
سابع عشر : الصلاة على الميت ، والدعاء له فى الصلاة ، انتفاع للميت بصلاة الحى عليه وهو عمل غيره .
ثامن عشر : أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذا الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض .
تاسع عشر : أن الله - تعالى - قال لنبيه : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } وقال - تعالى - : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ . . } فقد رفع الله - تعالى - العذاب عن بعض الناس بسبب بعض ، وذلك انتفاع بعمل الغير .
تمام العشرين : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ، فإنه ينتفع بذلك من يُخرِج عنه ، ولا سعى له فيها .
ثم قال - رحمه الله - : ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة ، على خلاف صريح الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة . .
والخلاصة أن الآية الكريمة فقد تكون من قبيل العام الذى قد خص بأمور كثيرة . كما سبق أن أشرنا ، وقد تكون مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام - ، لأنها حكاية عما فى صحفهما ، أما الأمة الإسلامية فلها سعيها ، ولها ما سعى لها به غيرها ، وهذا من فضل الله ورحمته بهذه الأمة .
وقد قال بعض الصالحين فى معنى هذه الآية : ليس للإنسان إلا ما سعى عدلا ، ولله - تعالى - أن يجزيه بالحسنة ألفا فضلا .
ولهذه المسألة تفاصيل أخرى فى كتب الفقه ، فليرجع إليها من شاء .
وقوله : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } أي : يوم القيامة ، كما قال تعالى : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون } [ التوبة : 105 ] أي : فيخبركم به ، ويجزيكم عليه أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
يجوز أن تكون عطفاً على جملة { ألا تزر وازرة وزر أخرى } [ النجم : 38 ] فهي من تمام تفسير { ما في صحف موسى وإبراهيم } [ النجم : 36 ، 37 ] فيكون تغيير الأسلوب إذ جيء في هذه الآية بحرف { أنَّ } المشددة لاقتضاء المقام أن يقع الإِخبار عن سَعي الإنسان بأنه يُعلن به يوم القيامة { وذلك من توابع أن ليس به إلاّ ما سعى } ، فلما كان لفظ { سعيه } صالحاً للوقوع اسماً لحرف { أنَّ } زال مقتضِي اجتلاب ضمير الشأن فزال مقتضِي { أَنْ } المخففة . وقد يكون مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم ما حكاه الله عنه من قوله : { ولا تخزني يوم يبعثون } [ الشعراء : 87 ] ويجوز أن لا يكون قوله مضمون قوله : { وأن سعيه } مشمولاً لما في صحف موسى وإبراهيم فعطفُه على { ما } الموصولة من قوله : { بما في صحف موسى وإبراهيم } [ النجم : 36 ، 37 ] ، عطف المفرد على المفرد فيكون معمولاً لباء الجر في قوله : { فِى صُحُفِ مُوسَى } الخ ، والتقدير : لم ينبأ بأن سعي الإنسان سوف يُرى ، أي لا بد أن يرى ، أي يجازى عليه ، أي لم ينبأ بهذه الحقيقة الدينية وعليه فلا نتطلب ثبوت مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم عليه السلام .
و { سوف } حرف استقبال والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد .
ومعنى { يرى } يشاهد عند الحساب كما في قوله تعالى : { ووجدوا ما عملوا حاضراً } [ الكهف : 49 ] ، فيجوز أن تجسم الأعمال فتصير مشاهدة وأمور الآخرة مخالفة لمعتاد أمور الدنيا . ويجوز أن تجعل علامات على الأعمال يُعلن بها عنها كما في قوله تعالى : { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } [ التحريم : 8 ] . وما في الحديث « يُنْصَب لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان » فيقدر مضاف تقديره : وأن عنوان سعيه سوف يرى .
ويجوز أن يكون ذلك بإشهار العمل والسعي كما في قوله تعالى : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة } [ الأعراف : 49 ] الآية ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم « من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة » فتكون الرؤية مستعارة للعلم لقصد تحقق العلم واشتهاره .
وحكمة ذلك تشريف المحسنين بحسن السمعة وانكسار المسيئين بسُوء الأحدوثة .