{ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } .
واسم الإشارة { هذا } يعود إلى الاستثناء السابق وهو قوله { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } .
وقد اختار هذا الرأى الإِمام الآلوسى فقال : قال الله - تعالى - { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ } أى : حق لابد أن أراعيه { مستقيم } لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره .
والإِشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلصين من إغوائه وكلمة على تستعمل في الوجوب . والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الأصلح عليه - تعالى - .
وقال أهل السنة ، إن ذلك وإن كان تفضلاً منه - سبحانه - إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه ، بمقتضى وعده - عز وجل - ، فجئ بعلىَّ لذلك .
ثم قال : وقرأ الضحاك ومجاهد ويعقوب . . { هذا صراط عَلِيٌّ } - بكسر اللام وضم الياء المشددة وتنوينها - أى : عال لارتفاع شأنه .
وقد اختار صاحب الكشاف عودة اسم الإِشارة إلى ما بعده فقال : قال الله - تعالى - { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أى هذا طريق حق على أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادى ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته .
ويرى ابن جرير أن على هنا بمعنى إلى ، فقد قال - رحمه الله - قوله - تعالى - { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } بمعنى هذا طريق إلى مستقيم .
فكان معنى الكلام : هذا طريق مرجعه إلى ، فأجازى كلا بأعمالهم ، كما قال - تعالى - { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } وذلك نظير قول القائل لمن يتوعده ويتهدده : طريقك على وأنا على طريقك ، فكذلك قوله { هذا صراط } معناه : هذا طريق علىّ وهذا طريق إلى . . . .
ويبدوا لنا أن الآية الكريمة مسوقة لبيان المنهاج القويم الذي كتبه الله - تعالى - على نفسه فضلاً منه وكرمًا ، والميزان العادل الذي وضعه - سبحانه - لتمييز الخبيث من الطيب .
فكأنه - سبحانه - يقول في الرد على إبليس الذي اعترف بعجزه عن إغواء المخلصين من عباد الله : يا إبليس ، إن عدم قدرتك على إغواء عبادى المخلصين منهج قويم من مناهجى التي اقتضتها حكمتى وعدالتى ورحمتى ، وسنة من سننى التي آليت على نفسى أن ألتزم بها مع خلقى .
إن عبادى المخلصين لا قوة ولا قدرة لك على إغوائهم ، لأنهم حتى إذا مسهم طائف منك . أسرعوا بالتوبة الصادقة إلى ، فقبلتها منهم . وغفرت لهم زلتهم . . . ولكنك تستطيع إغواء أتباعك الذين استحوذت عليهم ؛ فانقادوا لك . . .
وفى هاتين الآيتين ما فيهما من التنويه بشأن عباد الله المخلصين ، ومن المديح لهم بقوة الإِيمان ، وعلو المنزلة ، وصدق العزيمة ؛ وضبط النفس . . .
قال الله تعالى له متهددًا ومتوعدًا{[16160]} { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أي : مرجعكم كلكم إلي ، فأجازيكم بأعمالكم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر ، كما قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ]
وقيل : طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى ، وإليه تنتهي . قاله مجاهد ، والحسن ، وقتادة كما قال : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } [ النحل : 9 ]
وقرأ قيس بن عُبَاد ، ومحمد بن سيرين ، وقتادة : " هذا صراط علي مستقيم " ، كقوله : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] أي : رفيع . والمشهور القراءة الأولى .
وقوله تعالى : { قال هذا صراط } الآية : القائل هو الله تعالى ، ويحتمل أن يكون ذلك بواسطة ، وقرأ الضحاك وحميد والنخعي وابو رجاء وابن سيرين وقتادة وقيس بن عباد ومجاهد وغيرهم «علي مستقيم » من العلو والرفعة ، والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى الإخلاص لما استثني إبليس من أخلص . قال الله له هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهله ، وقرأ جمهور الناس «علي مستقيم » ، والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص ، لما قسم إبليس الناس هذين القسمين ، قال الله هذه طريق علي ، أي هذا أمر إلى مصيره ، والعرب تقول طريقك في هذا الأمر على فلان أي إليه يصير النظر في أمرك ، وهذا نحو قوله تعالى { إن ربك لبالمرصاد }{[7171]} [ الفجر : 14 ] .
قال القاضي أبو محمد : الآية على هذه القراءة تتضمن وعيداً{[7172]} ، ثم ابتدأ الإخبار عن سلامة عباده المتقين من إبليس وخاطبه بأنه لا حجة له عليهم ولا ملكه .
الصراط المستقيم : هو الخبر والرشاد .
فالإشارة إلى ما يؤخذ من الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة المبيّنة للإخبار عن اسم الإشارة وهي جملة { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ، فتكون الإشارة إلى غير مشاهَد تنزيلاً له منزلة المشاهد ، وتنزيلاً للمسموع منزلة المرئي .
ثم إن هذا المنزل منزلة المشاهد هو مع ذلك غير مذكور لقصد التشويق إلى سماعه عند ذكره . فاسم الإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن ، كما يكتب في العهود والعقود : هذا ما قاضى عليه فلان فلاناً أنه كيَت وكيت ، أو هذا ما اشترى فلان من فلان أنه باعه كذا وكذا .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الاستثناء الذي سبق في حكاية كلام إبليس من قوله : { إلا عبادك منهم المخلصين } [ سورة الحجر : 40 ] لتضمنه أنه لا يستطيع غواية العباد الذين أخلصهم الله للخير ، فتكون جملة { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } مستأنفة أفادت نفي سلطانه .
والصراط : مستعار للعمل الذي يقصِد منه عاملُه فائدةً . شُبه بالطريق الموصل إلى المكان المطلوب وصوله إليه ، أي هذا هو السُنّة التي وضعتُها في الناس وفي غوايتك إياهم وهي أنّك لا تغوي إلا من اتّبعك من الغاوين ، أو أنك تغوي من عدا عبادي المخلصين .
و { مستقيم } نعت ل { صراط } ، أي لا اعوجاج فيه . واستعيرت الاستقامة لملازمة الحالة الكاملة .
و { على } مستعملة في الوجوب المجازي ، وهو الفعل الدائم التي لا يتخلّف كقوله تعالى : { إن علينا للهدى } [ سورة الليل : 12 ] ، أي أنّا التزمنا الهدى لا نحيد عنه لأنه مقتضى الحكمة وعظمة الإلهية .
وهذه الجملة مما يُرسل من الأمثال القرآنية .
وقرأ الجمهور { على } بفتح اللام وفتح الياء على أنها ( على ) اتصلت بها ياء المتكلم . وقرأه يعقوب بكسر اللام وضم الياء وتنوينها على أنه وصف من العلوّ وصف به صراط ، أي صراط شريف عظيم القدر .
والمعنى أن الله وضع سنّة في نفوس البشر أن الشيطان لا يتسلّط إلا على من كان غاوياً ، أي مائلاً للغواية مكتسباً لها دون مَن كبحَ نفسه عن الشر . فإن العاقل إذا تعلق به وسواس الشيطان عَلم ما فيه من إضلال وعلم أن الهدى في خلافه فإذا توفّق وحمل نفسه على اختيار الهُدى وصرف إليه عزمه قوي على الشيطان فلم يكن له عليه سلطان ، وإذا مَال إلى الضلال واستحسنه واختار إرضاء شهوته صار متهيئاً إلى الغواية فأغواه الشيطان فغوَى . فالاتباع مجاز بمعنى الطاعة واستحسان الرأي كقوله : { فاتبعوني يحببكم الله } [ سورة آل عمران : 31 ] .