ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التأكيد تأكيدات أخرى فقال : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ . وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }
والشاعر : هو من يقول الشعر . والكاهن : هو من يتعاطى الكهانة عن طريق الزعم بأنه يعلم الغيب .
وانتصب " قليلا " فى الموضعين على أنه صفة لمصدر محذوف ، و " ما " مزيدة لتأكيد القلة .
والمراد بالقلة فى الموضعين انتفاء الإِيمان منهم أصلا أو أن المراد بالقلة : إيمانهم اليسير ، كإيمانهم بأن الله هو الذى خلقهم ، مع إشراكهم معه آلهة أخرى فى العبادة .
أى : ليس القرآن الكريم بقول الشاعر ، ولا بقول كاهن ، وإنما هو تنزيل من رب العالمين ، على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكى يبلغه إليكم ، ولكى يخركم بواسطته من ظلمات الكفر ، إلى نور الإيمان .
ولكنكم - أيها الكافرون - لا إيمان عندكم أصلا ، أو قليلا ما تؤمنون بالحق ، وقليلا ما تتذكرونه وتتعظون به .
ففى الآيتين رد على الجاحدين الذين وصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو كاهن .
وخص هذين الوصفين بالذكر هنا لأن وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه { رَسُولٍ كَرِيمٍ } كاف لنفى الجنون أو الكذب عنه صلى الله عليه وسلم أما وصفه بالشعر والكهانة فلا ينافى عندهم وصفة بأنه كريم ، لأن العشر والكهانة كان معدودين عندهم من صفات الشرف ، لذا نفى - سبحانه - عنه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر أو كاهن ، وأثبت له أنه رسول كريم .
فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . . ( إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين ) . .
ولقد كان مما تقول به المشركون على القرآن وعلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قولهم : إنه شاعر . وإنه كاهن . متأثرين في هذا بشبهة سطحية ، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر . وأن الشاعر في وهمهم له رئي من الجن يأتيه بالقول الفائق ، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن . فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع ! وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة ، وطبيعة الشعر أو الكهانة . .
فالشعر قد يكون موسيقي الإيقاع ، رائع الأخيلة ، جميل الصور والظلال ؛ ولكنه لا يختلط أبدا ولا يشتبه بهذا القرآن إن هنالك فارقا أساسيا فاصلا بينهما . إن هذا القرآن يقرر منهجا متكاملا للحياة يقوم على حق ثابت ، ونظرة موحدة ، ويصدر عن تصور للوجود الإلهي ثابت ، وللكون والحياة كذلك . والشعر انفعالات متوالية وعواطف جياشة ، قلما تثبت على نظرة واحدة للحياة في حالات الرضى والغضب ، والانطلاق والانكماش ، والحب والكره ، والتأثرات المتغيرة على كل حال !
هذا إلى أن التصور الثابت الذي جاء به القرآن قد أنشأه القرآن من الأساس ، في كلياته وجزئياته ، مع تعين مصدره الإلهي . فكل ما في هذا التصور يوحي بأنه ليس من عمل البشر ، فليس من طبيعة البشر أن ينشئوا تصورا كونيا كاملا كهذا التصور . . لم يسبق لهم هذا ولم يلحق . . وهذا كل ما أبدعته قرائح البشر من تصورات للكون وللقوة المنشئة له المدبرة لنظامه . . هذا هو معروضا مسجلا في الفلسفة وفي الشعر وفي غيرها من المذاهب الفكرية ؛ فإذا قرن إلى التصور القرآني وضح أن هذا التصور صادر من جهة غير تلك الجهة ! وأنه متفرد بطابع معين يميزه من كل تصورات البشر .
كذلك الأمر في الكهانة وما يصدر عنها . فلم يعرف التاريخ من قبل أو بعد كاهنا أنشأ منهجا متكاملا ثابتا كالمنهج الذي جاء به القرآن . وكل ما نقل عن الكهنة أسجاع لفظية أو حكمة مفردة ، أو إشارة ملغزة !
وهناك لفتات ليس من طبيعة البشر أن يلتفتوها ، وقد وقفنا عند بعضها في هذه الظلال أحيانا . فلم يسبق لبشر ولم يلحق كذلك أن أراد التعبير عن العلم الشامل الدقيق اللطيف ، فاتجه إلى مثل هذه الصورة التي جاءت في القرآن :
وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين . . أو إلى مثل هذه الصورة : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير أو إلى مثل هذه الصورة : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير
كذلك لم يسبق لبشر ولم يلحق أن التفت مثل هذه اللفتة إلى القدرة التي تمسك هذا الكون وتدبره : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . . أو هذه اللفتة إلى انبثاقات الحياة في الكون من يد القدرة المبدعة وما يحيط بالحياة من موافقات كونية مدبرة مقدرة :
( إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي . ذلكم الله . فأنى تؤفكون . فالق الإصباح . وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ، ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون . وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ، قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون . وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ، فأخرجنا منه خضرا ، نخرج منه حبا متراكبا ، ومن النخل من طلعها قنوان دانية ، وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه . انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) . .
وهذه اللفتات الكونية كثيرة في القرآن كثرة ملحوظة ، ولا نظير لها فيما تتجه إليه خواطر البشر للتعبير عن مثل المعاني التي يعبر عنها القرآن . . وهذه وحدها كافية لمعرفة مصدر هذا الكتاب . . بغض النظر عن كل دلالة أخرى من صلب الكتاب أو من الملابسات المصاحبة له على السواء .
فالشبهة واهية سطحية . حتى حين كان القرآن لم يكتمل ، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص ، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد .
وكبراء قريش كانوا يراجعون أنفسهم ، ويردون على هذه الشبهة بين الحين والحين . ولكن الغرض يعمي ويصم . وإذ لم يهتدوا به فسيقولون : هذا إفك قديم . كما يقول القرآن الكريم !
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش ، وهم يراجعون هذه الشبهة وينفونها فيما بينهم .
من ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة ، وعن النضر بن الحارث ، وعن عتبة بن ربيعة وقد جاء في روايته عن الأول :
" ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش . وكان ذا سن فيهم ؛ وقد حضر الموسم . فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ؛ فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ، فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقل به . قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول : كاهن . قال : لا والله ، ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه . قالوا : فنقول : مجنون . قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قالوا : فنقول : شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر . قالوا : فنقول : ساحر . قال : ما هو بساحر ؛ لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم . . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ? قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره . . . "
وحكى عن الثاني [ النضر بن الحارث ] قال :
" فقال يا معشر قريش . إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد . قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر ! لا والله ، ما هو بساحر . لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم . وقلتم كاهن ! لا والله ما هو بكاهن . قد رأينا الكهنة وتخالجهم ، وسمعنا سجعهم . وقلتم : شاعر ! لا والله ما هو بشاعر . قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه . وقلتم : مجنون ! لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه . يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم . . . " .
والمطابقة تكاد تكون تامة - بين قوله وقول عتبة . وقد يكون هو حادثا واحدا نسب مرة إلى هذا ومرة إلى ذاك . ولكن لا نستبعد كذلك أن يتطابق قولان لرجلين من كبار قريش في موقفين متشابهين من مواقف حيرتهم تجاه هذا القرآن !
وأما موقف عتبة فقد سبقت حكايته في استعراضنا لسورة القلم في هذا الجزء . . وهو قريب من موقف الوليد والنضر تجاه محمد وتجاه القول الذي جاء به . .
فما كان قولهم : ساحر أو كاهن ، إلا حيلة ماكرة أحيانا وشبهة مفضوحة أحيانا . والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبر وأول تفكير . وهو من ثم لا يحتاج إلى قسم بما يعلمون وما لا يعلمون : إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر . ولا بقول كاهن . . إنما هو تنزيل من رب العالمين .
وتقرير أنه قول رسول كريم لا يعني أنه من إنشائه ، ولكن المراد هنا أنه قول من نوع آخر . لا يقوله شاعر ، ولا يقوله كاهن ، إنما يقوله رسول ، يرسل به من عند الله ، فيحمله من هناك ، من ذلك المصدر الذي أرسله .
وعطف { ولا بقول كاهن } على جملة الخبر في قوله : { بقول شاعر ، } و { لا } النافية تأكيد لنفي { ما } .
وكني بنفي أن يكون قولَ شاعر ، أو قول كاهن عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعراً أو كاهناً ، رد لقولهم : هو شاعر أو هو كاهن .
وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم : افتراه ، أو هو مجنون ، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنوناً أو كاذباً إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم ، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف .
والمعنى : ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبَه إلى الله تعالى .
و { قليلاً } في قوله : { قليلاً ما تؤمنون قليلاً ما تذكَّرون } مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله : { فلا يؤمنون إلاّ قليلاً } [ النساء : 46 ] ، وهو أسلوب عربي ، قال ذو الرمة :
أُنيحَتْ ألْقَتْ بَلْدَةً فوق بَلْدةٍ *** قَلِيلٍ بها الأصواتُ إلاّ بُغَامُها
فإن استثناء بُغام راحلته دل على أنه أراد من ( قليل ) عدم الأصوات .
والمعنى : لا تؤمنون ولا تذكرون ، أي عندما تقولون هو شاعر وهو مجنون ، ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعدُ . وقد تقدم في سورة البقرة ( 88 ) قوله : { فقليلاً ما يؤمنون } .
وانتصب قليلاً في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه { تؤمنون } و { تذكَّرون } أي تؤمنون إيماناً قليلاً ، وتذكَّرون تذكراً قليلاً .
و { ما } مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي :
قليلاً به ما يَحْمَدَنَّك وَارث *** إذَا نال مما كنتَ تَجمع مَغْنَمَا
وجملتَا { قليلاً ما تؤمنون قليلاً ما تذَّكَّرون } معترضتان ، أي انتفى أن يكون قول شاعر ، وانتفى أن يكون قول كاهن ، وهذا الانتفاء لا يحصِّل إيمانكم ولا تذكركم لأنكم أهل عناد .
وقرأ الجمهور { ما تؤمنون ، وما تذكرون } كليهما بالمثناة الفوقية ، وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر ( واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر ) ويعقوبُ بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وحسَّن ذلك كونُهما معترضتين .
وأوثر نفي الإِيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر ، ونفي التذكُّر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن ، لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزائه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخرِ الأجزاء ، فادعاؤهم أنه قول شاعر بهتان متعمَّد ينادي على أنهم لا يُرجى إيمانهم ، وأما انتفاء كون القرآن قولَ كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشبَّه في بادىء الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين ، فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه عَلم أنه ليس بقول كاهن ، فنظمُه مخالف لنظم كلام الكهان إذ ليست فقراته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع ، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإِخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث ، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها ، فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفياً عنهم التذكر والتدبر ، وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم .