قال الله تعالى : { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا } أي : بما تفوهوا به من الإيمان ونطقوا به من التصديق بالحق { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم . وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام ، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه ، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام .
ولقد كان ما أعده الله - تعالى - لهؤلاء الأصفياء من ثواب شيئاً عظيماً ، عبر عنه - سبحانه - بقوله : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَآءُ المحسنين } .
أي : فكافأهم الله - تعالى - بسبب أقوالهم الطيبة الدالة على إيمانهم وإخلاصهم ، جنات تجري من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : باقين في تلك الجنات بقاء لا موت معه ، { جَزَآءُ المحسنين } أي : المؤمنين المخلصين في أقوالهم وأعمالهم .
والمراد بقوله : { بِمَا قَالُواْ } : ما سبق أن حكاه عنهم - سبحانه - من قولهم : { رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } ورتب الثواب المذكور على القول : لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم ، وعلى صدق يقينهم ، والقول إذا اقترن بذلك فهو الإِيمان .
قال الآلوسي : قوله { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ } أي بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد ، فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له ، كما إذا قيل : هذا قول فلان ، لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإِفادة الاعتقاد .
وقيل : إن القول هنا مجاز عن الرأي والاعتقاد والمذهب كما يقال : هذا قول الإمام الأعظم أي : هذا مذهبه واعتقاده .
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم : { رَبَّنَآ آمَنَّا } وقولهم { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } .
وقد بينت هذه الآية الكريمة أنه - سبحانه - قد أجابهم إلى ما طلبوا ، بل أكبر مما طلبوا فقد كانوا يطمعون في أن يكونوا مع القوم الصالحين ، وأن يكتبهم مع الشاهدين . فأعطاهم - سبحانه - جنات تجري من تحتها الأنهار . وسماهم محسنين . والإِحسان أعلى درجات الإِيمان ، وأكرم أوصاف المتقين .
هذا جزاء الذين سمعوا ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وقالوا ما قالوا مما يشهد بصفاء نفوسهم .
ولا يقف السياق القرآني هنا عند بيان من هم الذين يعنيهم بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا من الذين قالوا إنا نصارى ؛ وعند بيان سلوكهم في مواجهة ما أنزل الله الى الرسول [ ص ] من الحق ؛ وفي اتخاذ موقف إيجابي صريح ، بالإيمان المعلن ، والانضمام إلى الصف المسلم ؛ والاستعداد لأداء الشهادة بالنفس والجهد والمال ؛ والدعاء إلى الله أن يقبلهم في الصف الشاهد لهذا الحق على هذا النحو ؛ مع الطمع في أن يختم لهم بالانضمام إلى موكب الصالحين . . لا يقف السياق القرآني عند هذا الحد في بيان أمر هؤلاء الذين يقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . بل يتابع خطاه لتكملة الصورة ، ورسم المصير الذي انتهوا إليه فعلا :
( فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين )
لقد علم الله صدق قلوبهم وألسنتهم ؛ وصدق عزيمتهم على المضى في الطريق ؛ وصدق تصميمهم على أداء الشهادة لهذا الدين الجديد الذي دخلوا فيه ؛ ولهذا الصف المسلم الذي اختاروه ، واعتبارهم أن أداء هذه الشهادة - بكل تكاليفها في النفس والمال - منة يمن الله بها على من يشاء من عباده ؛ واعتبارهم كذلك أنه لم يعد لهم طريق يسلكونة إلا هذا الطريق الذي أعلنوا المضي فيه ؛ ورجاءهم في ربهم أن يدخلهم مع القوم الصالحين . .
لقد علم الله منهم هذا كله ؛ فقبل منهم قولهم وكتب لهم الجنة جزاء لهم ؛ وشهد لهم - سبحانه - بأنهم محسنون ، وأنه يجزيهم جزاء المحسنين : ( فأثابهم الله - بما قالوا - جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . . وذلك جزاء المحسنين . . ) .
والإحسان أعلى درجات الإيمان والإسلام . . والله - جل جلاله - قد شهد لهذا الفريق من الناس أنه من المحسنين .
هو فريق خاص محدد الملامح هذا الذي يقول عنه القرآن الكريم : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ) . .
هو فريق لا يستكبر عن الحق حين يسمعه ، بل يستجيب له تلك الاستجابة العميقة الجاهرة الصريحة . وهو فريق لا يتردد في إعلان استجابته للإسلام ، والانضمام للصف المسلم ؛ والانضمام إليه بصفة خاصة في تكاليف هذه العقيدة ؛ وهي أداء الشهادة لها بالاستقامة عليها والجهاد لإقرارها وتمكينها وهو فريق علم الله منه صدق قوله فقبله في صفوف المحسنين . .
أي : فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ساكنين{[10224]} فيها أبدًا ، لا يحولون ولا يزولون ، { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } أي : في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان ، وأين كان ، ومع من كان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(فأثابهم الله بما قالوا) من التصديق، (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)، لا يموتون، (وذلك) الثواب (جزاء المحسنين).
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فجزاهم الله بقولهم: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين "جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ": بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار "خَالِدِينَ فِيَها": دائما فيها مُكثُهم، لا يخرجون منها ولا يُحوَّلون عنها. "وذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ": وهذا الذي جزيت هؤلاء القائلين بما وصفت عنهم من قيلهم على ما قالوا من الجنات التي هم فيها خالدون، جزاء كلّ محسن في قيله وفعله. وإحسان المحسن في ذلك أن يوحد الله توحيدا خالصا محضا لا شرك فيه، ويقرّ بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب، ويؤدّي فرائضه، ويجتنب معاصيه، فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى: "جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ خالِدِينَ فيها".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأثابهم الله بما قالوا} الثناء الحسن في الدنيا حين ذكرهم في القرآن، فيذكرون إلى يوم القيامة، ويثنى عليهم، وفي الآخرة الجنة ونعيمها {وذلك جزاء المحسنين} المحسن كأنه هو الذي يتقي المعاصي، ويأتي بالخيرات والحسنات جميعا؛ يعمل عملين جميعا. والتقي هو الذي يتقي المعاصي والمكاره خاصة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا صَدَقَتْ آمالهم، قابلها بالتحقيق، سُنَّةً منه -سبحانه- ألا يخيب راجيه، ولا يرد مؤمليه، وإنما علَّق الثواب على قولِ القلب الذي هو شهادةٌ عن شهوده، فأمّا النظر المنفردُ عن البصيرةِ فلا ثوابَ عليه ولا إيجاب.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فأثابهم الله بما قالوا} يعني بما سألوا الله من قولهم {فاكتبنا مع الشاهدين} وقولهم {ونطمع أن يدخلنا ربنا} الآية {جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك} أي الثواب {جزاء المحسنين} الموحدين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قرأ الحسن: «فآتاهم» {بِمَا قَالُواْ} بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص، من قولك: هذا قول فلان، أي اعتقاده وما يذهب إليه.
ثم قال تعالى: {فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} وفيه مسائل: المسألة الأولى: ظاهر الآية يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بمجرد القول لأنه تعالى قال: {فأثابهم الله بما قالوا} وذلك غير ممكن لأن مجرد القول لا يفيد الثواب. وأجابوا عنه من وجهين: الأول: أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة، وذلك هو قوله {مما عرفوا من الحق} فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان. الثاني: روى عطاء عن ابن عباس أنه قال قوله {بما قالوا} يريد بما سألوا، يعني قولهم {فاكتبنا مع الشاهدين}.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{مما عرفوا من الحق} فوصفهم بالمعرفة، فدل على اقتران القول بالعلم، وقال: {وذلك جزاء المحسنين} فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الوصف بهم، وأنهم أثيبوا لقيام هذا الوصف بهم، وهو رتبة الإحسان، وهي التي فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة، وإما أن يكون أريد به العموم فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر قولهم الدال على حسن اعتقادهم وجميل استعدادهم، ذكر جزاءهم عليه فقال: {فأثابهم الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {بما قالوا} أي جعل ثوابهم على هذا القول المستند إلى خلوص النية الناشئ عن حسن الطوية {جنات تجري} ولما كان الماء لو استغرق المكان أفسد، أثبت الجار فقال: {من تحتها الأنهار} ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال: {خالدين فيها}. ولما كان التقدير: لإحسانهم، طرد الأمر في غيرهم فقال: {وذلك} أي الجزاء العظيم {جزاء المحسنين} أي كلهم.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{جَزَاءُ المُحْسِنِين} أَحسنوا النظر في الدلائل النقلية والحسية فآمنوا وعملوا واتقوا، وأَحسنوا بالإِيمان والعمل والتقوى، أَو اعتادوا الإِحسان في الأُمور، والمراد عموم المحسنين أو هؤلاء المذكورون، فمقتضى الظاهر جزاؤهم فأَظهر ليصفهم بأَن ذلك منهم إِحسان.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وعلينا أن نقف في وصف نعيم الآخرة على ما جاء به القرآن الكريم وصحت به السنة النبوية، ولا نعدو ذلك إلى ما وراءه، فإن النعيم الروحاني والرضوان الإلهي لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ولا يحيط به الوصف، فنحن في عالم يخالف ذلك العالم في أوصافه وخواصه، مهما أكثرنا من الوصف، فلا نصل إلى شيء مما أعده الله لهم هناك: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والإحسان أعلى درجات الإيمان والإسلام.. والله -جل جلاله- قد شهد لهذا الفريق من الناس أنه من المحسنين. هو فريق خاص محدد الملامح هذا الذي يقول عنه القرآن الكريم: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى).. هو فريق لا يستكبر عن الحق حين يسمعه، بل يستجيب له تلك الاستجابة العميقة الجاهرة الصريحة. وهو فريق لا يتردد في إعلان استجابته للإسلام، والانضمام للصف المسلم؛ والانضمام إليه بصفة خاصة في تكاليف هذه العقيدة؛ وهي أداء الشهادة لها بالاستقامة عليها والجهاد لإقرارها وتمكينها وهو فريق علم الله منه صدق قوله فقبله في صفوف المحسنين..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذا النص الكريم إجابتهم إلى ما طلبوا وهو إجابة الله العزيز الكريم وهو اكبر مما طلبوا لقد كانوا يطمعون أن يكونوا من القوم الصالحين وأن يكتبوا مع الشاهدين، فأجابهم بالجزاء الأوفى وهو ما أعد الله تعالى لعباده المتقين كانوا يطمعون ويرجون فسمى سبحانه ما أعطاهم جزاء وفاقا، وكانوا يطلبون أن يكونوا مع الصالحين فسماهم الله تعالى محسنين أي مجيدين متقين مخلصين. فكان الجواب هو جواب الحكيم الكريم الذي يقول تعالت كلماته: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان 60) (الرحمان) والثواب الرجوع بالشيء على حالته الأولى وكان ثواب العمل من قبيل الرجوع على أصل العمل أي أن ما ينالهم من جنات النعيم، أي من المقام الذي ينعمون وإنما عاد إليهم من أعمالهم، وذلك حرم الله تعالى إذ جعل جزاءهم من العمل ذاته وهو ذو الفضل العظيم، وذلك هو الجزاء لمن يحسن.
ولنا أن نعرف أن للقول أهمية كبرى لأنه يرتبط من بعد ذلك بالسلوك...
فمجرد القول هو فتح لمجال الفعل. {فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار} والحق يريد أن يؤكد لنا أن كل حركة إيمانية حتى ولو كانت قولا إنما تأخذ كمالها من عمرها. ونعلم أن الإيمان في مكة كان هو الإيمان بالقول. ذلك أن الناس آمنت ولم تكن الأحكام قد نزلت، فغالبية الأحكام نزلت في المدينة. وعلى ذلك أثاب الله المؤمنين لمجرد أنهم قالوا كلمة الإيمان، حدث ذلك ولم يكن قد جاء من الحق الأمر بالبلاغ الشامل وهو قوله الحق: {وأنذر عشيرتك الأقربين (214)} (من الآية 214 سورة الشعراء).