ثم ذكر الآيات الدالات على ما جاءت به الرسل من الحق فقال :
{ 16 -20 } { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ }يقول تعالى -مبينا كمال اقتداره ورحمته بخلقه- : { ولقد جعلنا في السماء بروجا } أي : نجوما كالأبراج والأعلام العظام يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، { وزيناها للناظرين } فإنه لولا النجوم لما كان للسماء هذا المنظر البهي والهيئة العجيبة ، وهذا مما يدعو الناظرين إلى التأمل فيها والنظر في معانيها والاستدلال بها على باريها .
قال الإِمام القرطبي ما ملخصه : لما ذكر - سبحانه - كفر الكافرين ، وعجز أصنامهم ، ذكر كمال قدرته ليستدل بها على وحدانيته .
والبروج : القصور والمنازل . قال ابن عباس . أى جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر ، أى : منازلهما . وأسماء هذه البروج : الحمل والثور والجوزاء والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت .
والعرب تعد المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم ، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب . . .
وقال الحسن وقتادة : البروج : النجوم ، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها . . . وقيل البروج : الكواكب العظام . . . .
قال بعض العلماء ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد ، لأن أصل البروج في اللغة الظهور ، ومنه تبرج المرأة ، بإظهار زينتها ، فالكواكب ظاهرة ، والقصور ظاهرة ، ومنازل الشمس والقمر كالقصور بجامع أن الكل محل ينزل فيه . . .
و { جعلنا } أى خلقنا وأبدعنا ، فيكون قوله { فى السماء } متعلقاً به ، وجوز أن يكون بمعنى التصيير ، فيكون قوله . في السماء . متعلقاً بمحذوف على أنه مفعول ثان له و { بروجاً } هو المفعول الأول .
أى : ولقد خلقنا وأبدعنا منازل وطرقا في السماء ، تسير فيها الكواكب بقدراتنا ، وإرادتنا ، وحكمتنا ، دون خلل أو اضطراب .
وفى ذلك الخلق ما فيه من منافع لكم ، حيث تستعملون هذه البروج في ضبط المواقيت وفى تحديد الجهات ، وفى غير ذلك من المنافع ، كما قال - تعالى - { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وافتتح - سبحانه - الآية الكريمة بلام القسم وقد ، تنزيلاً للمخاطبين الذاهلين عن الالتفات إلى مظاهر قدرة الله - تعالى - منزلة المنكرين ، فأكد لهم الكلام بمؤكدين لينتبهوا ويعتبروا .
والضمير في قوله { وزيناها . . . } يعود إلى السماء . أى : وزينا السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء ، لتكون جميلة في عيون الناظرين إليها ، وآية للمتفكرين في دلائل قدرة الله - تعالى - وبديع صنعه .
وهذه الجملة الكريمة ، تلفت الأنظار إلى أن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون ، كما تشعر المؤمنين بأن من الواجب عليهم أن يجعلوا حياتهم مبنية على الجمال في الظاهر وفى الباطن ، تأسيا بسنة الله - تعالى - في خلق هذا الكون .
( ولقد جعلنا في السماء بروجا . وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع ، فأتبعه شهاب مبين ) . .
إنه الخط الأول في اللوحة العريضة . . لوحة الكون العجيبة ، التي تنطق بآيات القدرة المبدعة ، وتشهد بالإعجاز أكثر مما يشهد نزول الملائكة ؛ وتكشف عن دقة التنظيم والتقدير ، كما تكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير .
والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها . وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي تنتقل فيها في مدارها . وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة ، وشاهدة بالدقة ، وشاهدة بالإبداع الجميل :
وهي لفتة هنا إلى جمال الكون - وبخاصة تلك السماء - تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون . فليست الضخامة وحدها ، وليست الدقة وحدها ، إنما هو الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعا ، وينشأ من تناسقها جميعا .
وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة ، وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم ، توصوص بنورها ثم يبدو كأنما تخبو ، ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد . . ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم ، والكون من حوله مهوم ، كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد !
إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني ، وعمق هذا الجمال في تكوينه ؛ ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة :
يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زَيَّنَها به من الكواكب الثواقب ، لمن تأملها ، وكرر النظر{[16096]} فيها ، يرى فيها من العجائب والآيات الباهرات ، ما يحار نظره فيه . ولهذا قال مجاهد وقتادة : البروج هاهنا هي : الكواكب .
قلت : وهذا كقوله تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [ الفرقان : 61 ] ومنهم من قال : البروج هي : منازل الشمس والقمر .
وقال عطية العوفي : البروج هاهنا : هي قصور الحرس{[16097]}
وجعل الشُهب حرسًا لها من مَرَدة الشياطين ، لئلا يسمعوا{[16098]} إلى الملأ الأعلى ، فمن تمرد منهم [ وتقدم ]{[16099]} لاستراق السمع ، جاءه { شِهَابٌ مُبِينٌ } فأتلفه ، فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه ، فيأخذها الآخر ، ويأتي بها إلى وليه ، كما جاء مصرحا به في الصحيح ، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان{[16100]} عن عمرو ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صَفوان " . قال علي ، وقال غيره : صفوان يَنفُذهم ذلك ، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير . فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع ، هكذا واحد فوق آخر - ووصف سفيان بيده فَفَرَّج بين أصابع يده اليمنى ، نَصبَها بعضها{[16101]} فوق بعض - فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يَرْمي بها إلى صاحبه فيحرقَه ، وربما لم يدركه [ حتى ]{[16102]} يَرْمي بها إلى الذي يليه ، [ إلى الذي ]{[16103]} هو أسفل منه ، حتى يلقوها إلى الأرض - وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى{[16104]} على فم الساحر - أو : الكاهن - فيكذب معها مائة كذبة{[16105]} فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ، فوجدناه حقًّا ؟ للكلمة التي سمعت من السماء " {[16106]}
لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها - عقب ذلك بهذه الآية - فكأنه قال : وإن في السماء لعبراً منصوبة غير هذه المذكورة ، وكفرهم بها ، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو .
و «البروج » : المنازل ، واحدها برج ، وسمي بذلك لظهوره ، ووضوحه ، ومنه تبرج المرأة : ظهورها وبدوها ، والعرب تقول : برج الشيء : إذا ظهر وارتفع .