نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَزَيَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِينَ} (16)

ولما كان ذكر هذه الآية السماوية على سبيل الفرض في الجواب عن إنكارهم النبوة ، دليلاً على مرودهم على الكفر ، وكان من المعلوم أن ثبوت النبوة مترتب على ثبوت الوحدانية ، توقع السامع الفَهِم الإخبارَ عما له تعالى من الآيات المحققة الوجود المشاهدة الدالة على قدرته ، فأتبعها بذلك استدلالاً على وحدانيته بما له من المصنوعات شرحاً لقوله{ وليعلموا أنما هو إله واحد }[ إبراهيم : 52 ] ودليلاً على عدم إيمانهم بالخوارق ، وابتدأ بالسماويات لظهورها لكل أحد وشرفها وظهور أنها من الخوارق بعدم ملابستها والوصول إليها ، فقال مفتتحاً بحرف التوقع : { ولقد حعلنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر عليها سوانا مما هو مغنٍ عن فتح باب ونحوه { في السماء بروجاً } أي منازل للقمر ، جمع برج ، وهو في الأصل القصر العالي أولها الحمل وآخرها الحوت ، سميت بذلك لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها ، وهي مختلفة الطبائع ، فسير الشمس والقمر بكل منها يؤثر ما لا يوثره الآخر ، فاختلافها في ذلك - مع أن نسبتها إلى السماء واحدة - دليل على الفاعل المختار الواحد ، والعرب أعرف الناس بها وباختلافها .

ومادة " برج " بكل تقليب تدور على الظهور الملزوم للعلو الملزوم للقوة ، وقد يفرط فيلزمه الضعف ، فمن مطلق الظهور : بروج السماء ، قال القزاز : سميت بروجاً لأنها بيوت الكواكب ، فكأنها بمنزلة الحصون لها ، وقيل : سميت لارتفاعها ، وكل حصن مرتفع فهو برج ، والبرج - أي محركاً : سعة بياض العين وصفاء سوادها ، وقيل : البرج في العين هو أن يكون البياض محدقاً بالسواد ، يظهر في نظر الإنسان فلا يغيب من سواد العين شيء ، وتبرجت المرأة : أبدت محاسنها ، والجربياء : الشمال - لعلوها ، والجريب : الوادي - لظهوره ، والجريب : مكيال أربعة أقفزة ، وجريب الأرض معروف ، وهو ساحة مربعة كل جانب منها ستون ذراعاً ، ومنه الجراب - لوعاء من جلود ، والجورب - للفافة الرجل ، لأنهما ظاهران بالنسبة إلى ما فيهما ، وكذا الجربان - لغلاف السيف ، وجراب البئر : جوفها ؛ والأرجاب : الأمعاء - شبهاً بالجراب ؛ والبارجة : سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال ، والبجرة : كل عقدة في البطن ، والعجرة : كل عقدة في الجسد ، والبجرة : السرة الناتئة ، وسرة البعير عظمت أولاً ، والبجر والبجري : الأمر العظيم ، وجاء فلان بالبجارة ، وهي الداهية : وفيه ما جمع إلى الظهور القوة ؛ ومن ذلك رجب : اسم شهر ، ورجبت الرجل : عظمته ، والرجبة من وصف الأدوية ، والرجب : الحياء والعفو ، والرجب : الهيبة ؛ والمجرب : الذي بلي بالشدائد ؛ ورجبت النخل ترجيباً : بنيت من جانبها بناء لئلا يسقط ؛ والجبر : خلاف الكسر ، والملك - لوجود الجبر به لقوته ، وجبرت العظم ، والجبارة : ما يوضع على الكسر لينجبر ، وجبرت الرجل : أحسنت إليه ، وأجبرته : ضممته إلى ما يريد ، وأجبرته على كذا : قهرته عليه ، أي أزلت جبره ، والجيرية : العانة من الحمير ، وهي أيضاً الأقوياء من الناس ، والجبار من النخل : الطويل الفتي ، والجبار اسم من أسماء الله تعالى ، والجبار : كل عات ، وكل ما فات اليد ، والعظيم القوي الطويل ، والمتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً والمتجبر : الأسد ، وجبار بالضم مخففاً : يوم الثلاثاء - لأن الله تعالى خلق المكروه فيه - كما في الصحيح ، ومن الضعف : الجبار - بالضم مخففاً ، وهو الهدر من الدماء والحروب وغيرها ، وقد يكون من جبر الكسر ، لأنه جبر به المهدر عنه وقوي به وأحسن إليه ، وكل ما أفسد وأهلك فهو جبار - كأنه شبه بالجبيرة التي تفسد لإصلاح الكسر ، والجبر : العبد - لضعفه واحتياجه إلى التقوية ؛ ومن الضعف أيضاً الجرب بالنسبة إلى من يحل به ، وهو من القوة بالنسبة إلى نفسه ، ومن الظهور والانتشار أيضاً ، والجرباء : السماء - تشبيهاً بالأجرب ، وأرض جرباء : مقحوطة ؛ والتربج : التجبر ، والروبج : درهم صغير ؛ قال الزبيدي : وهو دخيل ، ومادة " جبر " منها بخصوص ترتيبها تدور على النفع ، وتارة تنظر إلى ما يلزمه من عدم الضر مثل الجبار بالضم مخففاً لما هدر ، وتارة تنظر إلى ما يلزم النفع من التكبر والقهر .

ولما ذكر البروج ، وصف سبحانه السماء المشتملة عليها فقال : { وزيناها } أي السماء لأنها المحدث عنها بالكواكب { للناظرين } أي لكل من له أهبة النظر ، في دلائل الوحدانية ، لا عائق له عن معرفة ذلك إلا عدم صرفه النظر إليه بالبصر أو بالبصيرة