ثم بين - سبحانه - بعد ذلك السبب الأصيل الذي جعل الغدر ديدنهم ، والحقد على المؤمنين دأبهم فقال : { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
والمراد بالاشتراء هنا الاستبدال والاستيعاض .
والمراد بآيات الله : كل ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من آيات قرآنية ، ومن تعاليم سامية تهدى إلى الخير والفلاح .
والمعنى ؛ إن السبب الأصيل الذي حمل هؤلاء المشركين على الغدر ، وعلى الفجور والطغيان عند القوة وعلى المداهنة والمخادعة عند الضعف . هو أنهم استبدلوا بآيات الله المتضمنة لكل خير وفلاح . . ثمنا قليلا . أى : عرضا حقيرا من أعراض الدنيا وزخارفها .
وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات . بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات . لأن كل ثمن يؤخذ في مقابل آيات الله فهو قليل وإن بلغ ما بلغ من اعراض الدنيا وزينتها .
وقوله : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } بيان لما ترتب على استبدالهم بآيات الله ثمنا قليلا .
والصد : المنع والحيلولة بين الشيء وغيره ، ويستعمل لازما فيقال : صد فلان عن الشئ صدودا بمعنى أعرض عنه . ويستعمل متعديا فيقال : صده عنه إذا صرفه عن الشئ .
وهنا تصح إرادة المعنيين فيكون التقدير : أن هؤلاء المشركين قد اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التي جاء بها نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التي جاء بها نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكتفوا بهذا بل صرفوا غيرهم عنها ، ومنعوه من الدخول فيها .
وقوله : { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تذليل قصد به بيان سوء عاقبتهم ، وقبح أعمالهم .
أى : إنهم ساء وقبح عملهم الذي كانوا يعملون من اشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا ، ومن صدودهم عن الحق وصدهم لغيهرم عنه . . وسيجازيهم الله على ذلك بما يستحقونه عن عقاب شديد .
( اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
وهذا هو السبب الأصيل لهذا الحقد الدفين عليكم ، وإضمار عدم الوفاء بعهودكم ، والانطلاق في التنكيل بكم - لو قدروا - من كل تحرج ومن كل تذمم . . إنه الفسوق عن دين الله ، والخروج عن هداه ، فلقد آثروا على آيات الله التي جاءتهم ثمنا قليلا من عرض هذه الحياة الدنيا يستمسكون به ويخافون فوته . وقد كانوا يخافون أن يضيع عليهم الإسلام شيئا من مصالحهم ؛ أو أن يكلفهم شيئا من أموالهم ! فصدوا عن سبيل الله بسبب شرائهم هذا الثمن القليل بآيات الله . صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم [ فسيجيء أنهم أئمة الكفر ] . . أما فعلهم هذا فهو الفعل السيء الذي يقرر الله سوءه الأصيل :
( إنهم ساء ما كانوا يعملون ! ) . .
ثم إنهم لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم ؛ ولا يتبعون تلك الخطة المنكرة معكم بذواتكم . . إنهم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ؛ ويتبعون هذا المنكر مع كل مسلم . . إنهم يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها . . للإيمان ذاته . . كما هو المعهود في كل أعداء الصفوة الخالصة من أهل هذا الدين ، على مدار التاريخ والقرون . . فكذلك قال السحرة لفرعون وهو يتوعدهم بأشد أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل : ( وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ) . . وكذلك قال رسول الله [ ص ] لأهل الكتاب بتوجيه من ربه : ( قل : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ? )وقال سبحانه عن أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) . فالإيمان هو سبب النقمة ، ومن ثم هم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ، ولا يراعون فيه عهدا ولا يتذممون من منكر :
وقوله تعالى : { اشتروا بآيات الله } الآية اللازم من ألفاظ هذه الآية أن هذه الطائفة الكافرة الموصوفة بما تقدم لما تركت آيات الله ودينه وآثرت الكفر وحالها في بلادها كل ذلك كالشراء والبيع ، لما كان ترك قد مكنوا منه وأخذ لما يمكن نبذه ، وهذه نزعة مالك رحمه الله في منع اختيار المشتري فيما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز التفاضل فيه{[5535]} ، وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة وقوله { فصدوا عن سبيله } يريد صدوا أنفسهم وغيرهم ، ثم حكم عليهم بأن عملهم سيء ، و { ساء } في هذه الآية إذ لم يذكر مفعولها يحتمل أن تكون مضمنة كبئس ، فأما إذا قلت ساءني فعل زيد فليس تضمين بوجه ، وإن قدرت في هذه الآية مفعولاً زال التضمين ، وروي أن أبا سفيان بن حرب جمع بعض العرب على طعام وندبهم إلى وجه من وجوه النقض فأجابوا إلى ذلك فنزلت الآية ، وقال بعض الناس : هذه في اليهود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول وإن كانت ألفاظ هذه الآية تقتضيه فما قبلها وما بعدها يرده ويتبرأ منه ، ويختل أسلوب القول به .