كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الأرض ، وكان يكون بينهما من الحروب والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة .
وكانت الفرس مشركين يعبدون النار ، وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والإنجيل وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس ، وكان المشركون -لاشتراكهم والفرس في الشرك- يحبون ظهور الفرس على الروم .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } روايات منها ، ما رواه ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فراس فى بضع سنين : قال : صدق . قالوا هل لك أن نقامرك ؟ - أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان - فبايعوه على أربع فلائص - جمع قلوص ، وهى من الإِبل : اشابة - إلى سبع سنين . فمضت السبع ولميكن شئ . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا : دون العشر .
قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين فى الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " .
وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على ان ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : فى سنة 613 ، وفى سنة 614 ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون ، وشتموا فى المسلمين . . فنزلت هذه الآيات .
فلم يمض من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة 621م . أى : قبل الهجرة بسنة .
وأدنى بمعنى أقرب . والمراد بالأرض : أرض الروم .
أى : غلبت الروم فى أقرب أرضها من بلاد الفرس .
قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، - على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما - ، وهى طرف بلاد الشام ممايلى الحجاز .
وقال مجاهد : كان ذلك فى الجزيرة ، وهى أقرب بلاد الروم من فارس .
وقال الآلوسى : والمراد بالأرض . أرض الروم ، على أن " أل " نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم .
أو المراد أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم .
وقوله - تعالى - : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } بشارة من الله - تعالى - للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس .
أى وهم - أى الروم - من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين .
والتعبير بقوله - تعالى - : { سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمرا لأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - حيث أخبر عن أمور ستقع فى المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر .
وقوله - سبحانه - : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } جملة معترضة لبيان قدرة الله - تعالى - التامة النافذة ، فى كل وقت وآن . أى : لله - تعالى - وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره - سبحانه - وأراده .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل - سبحانه - بهذا النصر شماتة المشركين فى المسلمين ، وازنداد المؤمنون ثبتاتا على ثباتهم .
قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، فى قول طائفة كبيرة من العلماء . . فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب فى الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس .
وقوله - سبحانه - : { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } مؤكد لما قبله . أى : ينصر - سبحانه - من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذى لا يغلبه غالب ، الرحيم الذى وسعت رحمته كل شئ .
ثم زاد - سبحانه - هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .
ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين . وقد روى ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ و كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم . فلما نزلت : الم . غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين . قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين . قال : صدق . قالوا : هل لك أن نقامرك ? فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين . فمضت السبع ولم يكن شيء . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " ما بضع سنين عندكم ? " قالوا : دون العشر . قال : " اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل " . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس . ففرح المؤمنون بذلك .
وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير . وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية .
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان . ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال ، والأمم لم تكن وثيقة الاربتاط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر . مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم ؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب ، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان ؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم ، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان .
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . منذ حوالي أربعة عشر قرنا . ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان ؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان .
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة ، وحقيقة القضية ؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر ، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة ، مهما تنوعت العلل والأسباب .
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله ، كما تبدو في قولة أبي بكر - رضي الله عنه - في غير تلعثم ولا تردد ، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه ؛ فما يزيد على أن يقول : صدق . ويراهنونه فيراهن وهو واثق . ثم يتحقق وعد الله ، في الأجل الذي حدده : ( في بضع سنين ) . . وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن ، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله . وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل .
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر ، من قول الله سبحانه : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . . والمسارعة برد الأمر كله لله . في هذا الحادث وفي سواه . وتقرير هذه الحقيقة الكلية ، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف . فالنصر والهزيمة ، وظهور الدول ودثورها ، وضعفها وقوتها . شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال ، مرده كله إلى الله ، يصرفه كيف شاء ، وفق حكمته ووفق مراده . وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة ، التي ليس لأحد عليها من سلطان ؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله . و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم .
( ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض . وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) . .
( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . .
( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) . .
ولقد صدق وعد الله ، وفرح المؤمنون بنصر الله .
( ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ) . .
فالأمر له من قبل ومن بعد . وهو ينصر من يشاء . لا مقيد لمشيئته سبحانه . والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب . فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب . والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة . وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف ؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات . والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات ، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة .
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال . فهي ترد الأمر كله إلى الله . ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع . أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف ، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله . ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخل يصلي قائلا : توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعقلها وتوكل " . فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب ، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله .
( ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ) . .
فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع ؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس ؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء . ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف .
وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وهم أبناء عم بني إسرائيل ، ويقال لهم : بنو الأصفر . وكانوا على دين اليونان ، واليونان من سلالة يافث بن نوح ، أبناء {[22746]} عم الترك . وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة ، ويقال لها : المتحيرة ، ويصلون إلى القطب الشمالي ، وهم الذين أسسوا دمشق ، وبنوا معبدها ، وفيه محاريب إلى جهة الشمال ، فكان{[22747]} الروم على دينهم إلى مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له : قيصر . فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس ، وأمه مريم الهيلانية الشدقانية{[22748]} من أرض حران ، كانت قد تنصرت قبله ، فدعته إلى دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفا ، فتابعها - يقال : تَقِيَّة - واجتمعت به النصارى ، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافا [ كثيرًا ]{[22749]} منتشرا متشتتا لا ينضبط ، إلا أنه اتفق من جماعتهم{[22750]} ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا ، فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة ، وإنما هي الخيانة الحقيرة ، ووضعوا له القوانين - يعنون كتب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وغَيَّروا دين المسيح ، عليه السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه . وفصلوا إلى المشرق{[22751]} واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير . واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس{[22752]} والغطاس ، وغير ذلك من البواعيث والشعانين ، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم الأساقفة والقساقسة ، ثم الشمامسة . وابتدعوا الرهبانية . وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد ، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال : إنه بنى في أيامه{[22753]} اثني عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاثة{[22754]} محاريب ، وبنت أمه القمامة ، وهؤلاء هم الملكية ، يعنون الذين هم على دين الملك .
ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف ، ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة " . {[22755]} والغرض أنهم استمروا على النصرانية ، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده ، حتى كان آخرهم هرقل . وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم ، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا ، فتمَلَّكَ عليهم في رياسَة عظيمة وأبهة كبيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس ، ومَلكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي ، وجميع بلاد العجم ، وهو سابور ذو الأكتاف . وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وله رياسة العجم وحماقة الفرس ، وكانوا مجوسا يعبدون النار . فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَره وقصره ، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية . فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه ، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ، ولا أمكنه ذلك لحصانتها ؛ لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من{[22756]} ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك . فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة ، ورأى في نفسه خديعة ، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ، ويشترط عليه ما شاء . فأجابه إلى ذلك ، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا{[22757]} ، من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة . فطاوعه قيصر ، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب ، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عُشْره ، وسأل كسرى أن يُمكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه ، فأطلق سراحه ، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية ، جمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته ، في جند قد عينته من جيشي ، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم ، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار ، إن شئتم استمررتم على بيعتي ، وإن شئتم وليتم عليكم غيري . فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا ، ولو غبت عشرة أعوام . فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط ، هذا وكسرى مُخَيّم على القسطنطينية ينتظره ليرجع ، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس ، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة ، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن ، وهي كرسي مملكة كسرى ، فقتل من بها ، وأخذ جميع حواصله وأمواله ، وأسر نساءه وحريمه ، وحلق رأس ولده ، ورَكّبه على حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة ، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما طلبت فخُذه . فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ، واشتد حنقه على البلد ، فاشتد{[22758]} في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك . فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون ، التي لا سبيل{[22759]} لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها ، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها ، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة ، وركب في بعض الجيش ، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت معه ، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا ، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر ، فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك ، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس ، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض ، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده ، ودخلوا القسطنطينية . وكان ذلك يوما مشهودًا عند النصارى ، وبقي كسرى وجيوشه {[22760]} حائرين لا يدرون ماذا يصنعون . لم يحصلوا على بلاد قيصر ، وبلادُهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم ، وسبوا ذراريهم ونساءهم . فكان هذا من غَلب الروم فارسَ ، وكان ذلك بعد تسع{[22761]} سنين من غلب الفرس للروم{[22762]} .
وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبُصرى ، على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز .
وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة ، وهي أقرب بلاد الروم من فارس ، فالله{[22763]} أعلم .
ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين ، وهي تسع ؛ فإن البِضْعَ في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع . وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي ، وابن جرير وغيرهما ، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجُمَحي ، عن الزهري ، عن عبُيَد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَة{[22764]} { الم غُلِبَتِ الرُّومُ } ألا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟ " ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه{[22765]} .
وروى ابن جرير ، عن عبد الله بن عمرو : أنه قال ذلك{[22766]} .
وقوله : غُلِبَتِ الرّومِ فِي أدْنَى الأرْضِ اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : غُلِبَتِ الرّومُ بضمّ الغين ، بمعنى : أن فارس غَلَبت الروم . وروي عن ابن عمر وأبي سعيد في ذلك ما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن الحسن الجفريّ ، عن سليط ، قال : سمعت ابن عمر يقرأ «الم غَلَبَتِ الرّومُ » فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ، على أيّ شيء غَلَبوا ؟ قال : على ريف الشام .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره الم غُلِبَتِ الرّومُ بضم الغين ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه . فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : غلبت فارس الروم فِي أدْنَى الأرْضِ من أرض الشام إلى أرض فارس وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبهِمْ يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سنِينَ لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ غلبتهم فارس وَمِنْ بَعْدُ غلبتهم إياها ، يقضي في خلقه ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ويظهر من شاء منهم على من أحبّ إظهاره عليه وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يقول : ويوم يغلِب الروم فارس يفرح المؤمنون بالله ورسوله بنصر الله إياهم على المشركين ، ونُصْرة الروم على فارس يَنْصُرُ اللّهُ تعالى ذكره مَنْ يَشاءُ من خلقه ، على من يشاء ، وهو نُصرة المؤمنين على المشركين ببدر وَهُوَ العَزِيزُ يقول : والله الشديد في انتقامه من أعدائه ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا يحول بينه وبينه حائل الرّحِيمُ بمن تاب من خلقه ، وراجع طاعته أن يعذّبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ، أو سعيد الثعلبي الذي يقال له أبو سعد من أهل طَرَسُوس ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن حبيب بن أبي عَمرة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كان المسلمون يُحبون أن تغلب الرومُ أهل الكتاب ، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس ، لأنهم أهل الأوثان ، قال : فذكروا ذلك لأبي بكر ، فذكره أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «أما إنهُمْ سَيُهْزَمُونَ » ، قال : فذكر ذلك أبو بكر للمشركين ، قال : فقالوا : أفنجعل بيننا وبينكم أجلاً ، فإن غلبوا كان لك كذا وكذا ، وإن غلبنا كان لنا كذا وكذا قال : فجعلوا بينهم وبينه أجلاً خمس سنين ، قال : فمضت فلم يُغلَبوا قال : فذكر ذلك أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «أفَلا جَعَلْتَهُ دُونَ العَشْرِ » ، قال سعيد : والبِضْع ما دون العشر ، قال : فَغَلَبَ الروم ، ثم غلبت قال : فذلك قوله : الم غُلِبَت الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ قال : البضع : ما دون العشر لِلّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال : حدثنا موسى بن هارون البرديّ ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت الم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْض . . . الاَية ، ناحب أبو بكر قريشا ، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إني قد ناحبتهم ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «هَلاّ احْتَطْتّ فإنّ البِضْعَ ما بينَ الثلاثِ إلى التّسْع » . قال الجمحي : المناحبة : المراهنة ، وذلك قبل أن يكون تحريم ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى قوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ قال : قد مضى كان ذلك في أهل فارس والروم ، وكانت فارس قد غلبتهم ، ثم غلبت الروم بعد ذلك ، ولقي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب ، يوم التقت الروم وفارس ، فنصر الله النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين على مشركي العرب ، ونصر أهل الكتاب على مشركي العجم ، ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم ونصر أهل الكتاب على العجم . قال عطية : فسألت أبا سعيد الخدريّ عن ذلك ، فقال : التقينا مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي العرب ، والتقت الروم وفارس ، فنصرنا الله على مشركي العرب ، ونصر الله أهل الكتاب على المجوس ، ففرحنا بنصر الله إيانا على المشركين ، وفرحنا بنصر الله أهل الكتاب على المجوس ، فذلك قوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْر اللّهِ .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله آلم . غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهمْ سَيَغْلِبُونَ غلبتهم فارس ، ثم غلبت الروم .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، قال : قد مضى آلم غُلِبَت الرّومُ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى قوله أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال : ذَكَر غَلَبة فارس إياهم ، وإدالة الروم على فارس ، وفرح المؤمنون بنصر الروم أهل الكتاب على فارس من أهل الأوثان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن عكرِمة ، أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض ، قالوا : وأدنى الأرض يومئذٍ أَذْرعات ، بها التقَوا ، فهُزِمت الروم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة ، فشقّ ذلك عليهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، ففرح الكفار بمكة وشمتوا ، فلقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنكم أهل الكتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أُمّيّون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم ، فأنزل الله آلم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ . . . الاَيات ، فخرج أبو بكر الصدّيق إلى الكفّار ، فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ؟ فلا تفرحوا ، ولا يقرّنّ الله أعينكم ، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه أُبيّ بن خلف ، فقال : كذبت يا أبا فضيل ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : أنت أكذب يا عدوّ الله ، فقال : أناحبك عشر قلائص مني ، وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمتُ ، وإن ظهرت فارس على الروم غرمتَ إلى ثلاث سنين ثم جاء أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ما هَكَذَا ذَكَرْتُ ، إنّمَا البِضْعُ ما بينَ الثّلاثِ إلى التّسْعِ ، فَزَايِدْهُ فِي الخَطَرِ ، ومادّه فِي الأجَلِ » . فخرج أبو بكر فلقي أُبَيّا ، فقال : لعلك ندمت ، فقال : لا ، فقال : أزايدك في الخطر ، وأمادّك في الأجل ، فاجعلها مئة قلوص لمئة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرِمة ، قال : كانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك الأبطال ، فدعاها كسرى ، فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلاً من بنيك ، فأشيري عليّ أيهم أستعمل ، فقالت : هذا فلان ، وهو أروغ من ثعلب ، وأحذر من صرد ، وهذا فرخان ، وهو أنفذ من سنان ، وهذا شهربراز ، وهو أحلم من كذا ، فاستعمل أيهم شئت قال : إني قد استعملت الحليم ، فاستعمل شهربراز ، فسار إلى الروم بأهل فارس ، وظهر عليهم ، فقتلهم ، وخرّب مدائنهم ، وقطع زيتونهم قال أبو بكر : فحدّثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت : لا ، قال : أما إنك لو رأيتها ، لرأيت المدائن التي خرّبت ، والزيتون الذي قُطع ، فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته .
قال عطاء الخراساني : ثني يحيى بن يعمر ، أن قيصر بعث رجلاً يُدعى قطمة بجيش من الروم ، وبعث كسرى شهربراز ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إليكم ، فلقيت فارس الروم ، فغلبتهم فارس ، ففرح بذلك كفار قريش ، وكرهه المسلمون ، فأنزل الله آلم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ . . . الاَيات ، ثم ذكر مثل حديث عكرمة ، وزاد : فلم يزل شهربراز يطؤهم ، ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ثم مات كسرى ، فبلغهم موته ، فانهزم شهربراز وأصحابه ، وأوعبت عليهم الروم عند ذلك ، فأتبعوهم يقتلونهم قال : وقال عكرمة في حديثه : لما ظهرت فارس على الروم جلس فرخان يشرب ، فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كسرى ، فكتب إلى شهربُراز : إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فَرّخان ، فكتب إليه : أيها الملك ، إنك لن تجد مثل فَرّخان ، إن له نكاية وضربا في العدوّ ، فلا تفعل . فكتب إليه : إن في رجال فارسَ خَلَفا منه ، فعَجّل إليّ برأسه . فراجعه ، فغضب كسرى فلم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس : إني قد نزعت عنكم شَهْربُرَاز ، واستعملت عليكم فَرّخان ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة : إذا وَلِيَ فَرّخان المُلك ، وانقاد له أخوه ، فأعطه هذه فلما قرأ شَهْربُرَاز الكتاب ، قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره ، وجلس فَرّخان ، ودفع الصحيفة إليه ، قال : ائتوني بشهربُرَاز ، فقدّمه ليضرب عنقه ، قال : لا تعجل حتى أكتب وصيتي ، قال : نعم ، فدعا بالسّفَط ، فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد ، فردّ الملك ، وكتب شهربُراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا يحملها البريد ، ولا تبلّغها الصحف ، فالْقِني ، ولا تَلْقَني إلاّ في خمسين رُوميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا فأقبل قيصر في خَمْسِ مئة ألف روميّ ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتته عيونه أن ليس معه إلاّ خمسون رجلاً ، ثم بُسِط لهما ، والتقيا في قبة ديباج ضُربت لهما ، مع كل واحد منهما سِكّين ، فدعيا ترجمانا بينهما ، فقال شَهْرْبُرَاز : إن الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي ، بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا ، فأراد أن أقتل أخي ، فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك ، فقال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السرّ بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا . قال : أجل ، فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما ، فأهلك الله كسرى ، وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُدَيبَية ، ففرح ومن معه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة آلم غُلِبَتِ الرّومُ قال : غَلَبتهم فارسُ على أدنى الشام وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سيَغْلِبُونَ . . . الاَية ، قال : لما أنزل الله هؤلاء الاَيات صَدّق المسلمون ربهم ، وعلموا أن الروم سيظهرون على فارس ، فاقتمروا هم والمشركون خمسَ قلائص ، خمَس قلائص ، وأَجّلوا بينهم خمس سنين ، فوليَ قِمار المسلمين أبو بكر رضي الله عنه ، ووليَ قِمار المشركين أُبيّ بن خلف ، وذلك قبل أن يُنْهَى عن القمار ، فحلّ الأجل ، ولم يظهر الروم على فارس ، وسأل المشركون قِمارهم ، فذَكَر ذلك أصحاب النبيّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لَمْ تَكُونُوا أحِقّاءَ أنْ تُؤَجّلُوا دُونَ العَشْرِ ، فإنّ البِضْعَ ما بينَ الثّلاثِ إلى العَشْرِ ، وَزَايِدُوهُمْ فِي القِمار ، وَمادّوهُمْ فِي الأجَلِ » ، ففعلوا ذلك ، فأظهر الله الروم على فارس عند رأس البِضْع سنينَ من قمارهم الأوّل ، وكان ذلك مرجعَه من الحديبية ، ففرح المسلمون بصلحهم الذي كان ، وبظهور أهل الكتاب على المجوس ، وكان ذلك مما شدّد الله به الإسلام وهو قوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ . . . الاَية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، في قوله آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى قوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر الناس بمكة أن الروم ستُغْلَب ، قال : فنزل القرآن بذلك ، قال : وكان المسلمون يُحِبون ظهور الروم على فارس ، لأنهم أهل الكتاب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، عن عبد الله ، قال : كانت فارس ظاهرة على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارسُ على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم : فلما نزلت آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى فِي بِضْعِ سِنِينَ قالوا : يا أبا بكر : إنّ صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ، قال : صدق ، قالوا : هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص ، إلى سبع سنين ، فمضت السبع ، ولم يكن شيء ، ففرح المشركون بذلك ، وشَقّ على المسلمين ، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم : فقال : «ما بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ ؟ » قالوا : دون العشر ، قال : «اذْهَبْ فزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سنَتَيْنِ » قال : فما مضت السنتان ، حتى جاءت الركبان بظهور الرّوم على فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، فأنزل الله : آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى قوله وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، ومطر عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : مضت الروم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله آلم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ قال : أدنى الأرض : الشأم وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ قال : كانت فارس قد غَلَبت الروم ، ثم أديلَ الرومُ على فارس ، وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ الرّومَ سَتَغْلِبُ فارِسا » ، فقال المشركون : هذا مما يَتَخَرّص محمد ، فقال أبو بكر : تُنَاحبونني ؟ والمناحبة : المجاعلة ، قالوا : نعم ، فناحبهم أبو بكر ، فجعل السنين أربعا أو خمسا ، ثم جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ البِضْعَ فِيما بينَ الثّلاثِ إلى التّسْعِ ، فارْجِعْ إلى القَوْمِ ، فَزِدْ فِي المُناحَبَةِ » ، فرجع إليهم . قالوا : فناحَبَهم فزاد . قال : فغَلبت الروم فارسا ، فذلك قول الله : وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ يوم أُديلت الرومُ على فارس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الفَزاريّ ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس آلم غُلِبَتِ الرومُ قال : غُلِبت وغَلَبت .
فأما الذين قرءوا ذلك : «غَلَبَتِ الرّومُ » بفتح الغين ، فإنهم قالوا : نزلت هذه الاَية خبرا من الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن غَلَبة الروم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا المعتمِر بن سليمان ، عن أبيه ، عن سليمان ، يعني الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يومُ ظهر الروم على فارس ، فأعجبَ ذلك المؤمنين ، فنزلت آلم غُلِبَتِ الرّومُ على فارس .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن سليمان ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يوم بدر ، غلبت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، فأنزل الله آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يوم بدر ، ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، لأنهم أهل كتاب ، فأنزل الله آلم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ قال : كانوا قد غلبوا قبل ذلك ، ثم قرأ حتى بلغ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ .