{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . . . } .
الضمير فى { عَلَيْهَا } يعود إلى الأرض بقرينة المقام ، والمراد بمن عليها : كل من يعيش فوقها ، ويدخل فيهم دخولا أوليا بنو آدم ، لأنهم هم المقصودون بالخطاب ، ولذا جىء بمن الموصولة الخاصة بالعقلاء .
أى : كل من على الأرض من إنسان وحيوان وغيرهما سائر إلى الزوال والفناء
والآن ينتهي هذا الاستعراض في صفحة الكون المنظور ، وتطوى صفحة الخلق الفاني ، وتتوارى أشباح الخلائق جميعا ، ويفرغ المجال من كل حي ، ويتجلى وجه الكريم الباقي ، متفردا بالبقاء ، متفردا بالجلال ؛ وتستقر في الحس حقيقة البقاء ، وهو يشهد ظلال الفناء :
( كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .
وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس ، وتخشع الأصوات ، وتسكن الجوارح . . . وظل الفناء يشمل كل حي ، ويطوي كل حركة ، ويغمر آفاق السماوات والأرض . .
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون ، وكذلك أهل السموات ، إلا من شاء الله ، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم ؛ فإن الرب - تعالى وتقدس - لا يموت ، بل هو الحي الذي لا يموت أبدا .
قال قتادة : أنبأ بما خلق ، ثم أنبأ أن ذلك كله كان{[27869]} .
وفي الدعاء المأثور : يا حي ، يا قيوم ، يا بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك نستغيث{[27870]} ، أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك .
وقال الشعبي : إذا قرأت { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، فلا تسكت حتى تقرأ : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَبْقَىَ وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * يَسْأَلُهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
يقول تعالى ذكره : كلّ من على ظهر الأرض من جنّ وإنس فإنه هالك ، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام وذو الجلال والإكرام من نعت الوجه فلذلك رفع ذو . وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله بالياء «ذي الجَلال والإكْرَام » على أنه من نعت الربّ وصفته .
والضمير في قوله { كل من عليها فان } للأرض{[10824]} ، وكنى عنها ، ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى كما قال تعالى : { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] إلى غير ذلك من الشواهد ، والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره ، فغلب عبارة من يعقل ، فلذلك قال : { من } .
لما كان قوله : { وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام } [ الرحمن : 24 ] مؤذناً بنعمة إيجاد أسباب النجاة من الهلاك وأسباب السعي لتحصيل ما به إقامة العيش إذ يَسَّر للناس السفن عوناً للناس على الأسفار وقضاء الأوطار مع السلامة من طغيان ماء البحار ، وكان وصف السفن بأنها كالأعلام توسعة في هذه النعمة أتبعه بالموعظة بأن هذا لا يحول بين الناس وبين ما قدره الله لهم من الفناء ، على عادة القرآن في الفُرص للموعظة والتذكير كقوله : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } [ النساء : 78 ] . وفائدة هذا أن لا ينسوا الاستعداد للحياة الباقية بفعل الصالحات ، وأن يتفكروا في عظيم قدرة الله تعالى ويقبلوا على توحيده وطلب مرضاته .
ووقوع هذه الجملة عقب ما عدد من النعم فيه إيماء إلى أن مصير نعم الدنيا إلى الفناء .
وضمير { عليها } مراد به الأرض بقرينة المقام مثل { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] ، أي الشمس ومثله في القرآن وكثير وفي كلام البلغاء .
ومعنى { فانٍ } : أنه صائر إلى الفناء ، فهذا من استعمال اسم الفاعل لزمان الاستقبال بالقرينة مثل { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] .
والمراد ب { من عليها } : الناس لأنهم المقصود بهذه العبر ، ولذلك جيء ب ( من ) الموصولة الخاصة بالعقلاء .
والمعنى : أن مصير جميع من على الأرض إلى الفناء ، وهذا تذكير بالموت وما بعده من الجزاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {كل من عليها فان} يعني مَن على الأرض من الحيوان، فان: يعني هالك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كلّ من على ظهر الأرض من جنّ وإنس فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد" ذو الجلال والإكرام"، وذو الجلال والإكرام من نعت الوجه فلذلك رفع "ذو"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}. كل من على وجه الأرض في حكم الفناء من حيث الجواز. ومن حيث الخبر: ستفنى الدنيا ومن عليها ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والضمير في قوله {كل من عليها فان} للأرض، وكنى عنها، ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى... والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره، فغلب عبارة من يعقل، فلذلك قال: {من}...
(أحدهما) وهو الصحيح أن الضمير عائد إلى الأرض، وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا} الآية وعلى هذا فله ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأنه تعالى لما قال: {وله الجوار المنشآت} إشارة إلى أن كل أحد يعرف ويجزم بأنه إذا كان في البحر فروحه وجسمه وماله في قبضة الله تعالى فإذا خرج إلى البر ونظر إلى الثبات الذي للأرض والتمكن الذي له فيها ينسى أمره فذكره وقال لا فرق بين الحالتين بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وكل من على وجه الأرض فإنه كمن على وجه الماء، ولو أمعن العاقل النظر لكان رسوب الأرض الثقيلة في الماء الذي هي عليه أقرب إلى العقل من رسوب الفلك الخفيفة فيه... قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}... وفيه مسائل:
المسألة الأولى: {من} للعقلاء وكل ما على وجه الأرض مع الأرض فان، فما فائدة الاختصاص بالعقلاء؟
نقول: المنتفع بالتخويف هو العاقل فخصه تعالى بالذكر.
المسألة الثانية: الفاني هو الذي فنى وكل من عليها سيفنى فهو باق بعد ليس بفان، نقول كقوله: (إنك ميت) وكما يقال للقريب إنه واصل، وجواب آخر: وهو أن وجود الإنسان عرض وهو غير باق وما ليس بباق فهو فان، فأمر الدنيا بين شيئين حدوث وعدم، أما البقاء فلا بقاء له لأن البقاء استمرار.
المسألة الثالثة: ما الفائدة في بيان أنه تعالى قال: {فان}؟ نقول: فيه فوائد (منها) الحث على العبادة وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة، (ومنها) المنع من الوثوق بما يكون للمرء فلا يقول: إذا كان في نعمة إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله معتمدا على ماله وملكه، (ومنها) الأمر بالصبر إن كان في ضر فلا يكفر بالله معتمدا على أن الأمر ذاهب والضر زائل، (ومنها) ترك اتخاذ الغير معبودا والزجر على الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى فإن أمرهم إلى الزوال قريب فيبقى القريب منهم عن قريب في ندم عظيم لأنه إن مات قبلهم يلقى الله كالعبد الآبق، وإن مات الملك قبله فيبقى بين الخلق وكل أحد ينتقم منه ويتشفى فيه، ويستحيي ممن كان يتكبر عليه وإن ماتا جميعا فلقاء الله عليه بعد التوفي في غاية الصعوبة، (ومنها) حسن التوحيد وترك الشرك الظاهر والخفي جميعا لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والفناء عبارة عن إعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
لم يقل فيها لأن عند الفناء ليس الحال حال القرار والتمكين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال مستأنفاً معبراً بالاسمية الدالة على الثبات وب {من} للدلالة على التصريح تهويلاً بفناء العاقل على فناء غير العاقل بطريق الأولى: {كل من عليها}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(كلُّ من عليها فان) وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟
وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي: يمكن ألاّ يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة، والجسر الذي لابدّ منه للوصول إلى دار الخلد، بلحاظ أنّ الدنيا بكلّ نعمها هي سجن المؤمن، والخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم. أو أنّ النعم الإلهيّة الكثيرة المذكور سابقاً يمكن أن تكون سبباً لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير ذلك. ممّا يستلزم تحذيراً إلهيّاً للإنسان، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقرّ، فالحذر من التعلّق بها، ولابدّ من الاستفادة من هذه النعم في طاعة الله.. إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة.