وقوله - سبحانه - : { قَالَ يا إبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } بيان لما وبخ الله - تعالى - به إبليس ، ولرد إبليس - لعنه الله - على خالقه - عز وجل - .
أى : قال الله - تعالى - لإِبليس على سبيل التوبيخ والزجر : أى سبب حملك على مخالفة أمرى ، وجعلك تمتنع عن السجود لمن أمرتك بالسجود له ؟
فكان رد إبليس : ما كان ليليق بشأنى ومنزلتى أن أسجد مع الساجدين لبشر خلقته - أيها الخالق العظيم - من صلصال من حمأ مسنون .
ومقصود إبليس بهذا الرد إثبات أنه خير من آدم ، كما حكى عنه - سبحانه - ذلك في قوله - تعالى - { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } وهذا الرد منه يدل على عصيانه لأمر ربه ، وعدم الرضا بحكمه ، وسوء أدبه مع خالقه - سبحانه - .
قال الآلوسى : وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة ، وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل ، وباعتبار الصورة ، وباعتبار الغاية ، بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلى عن الملكات الردية ، والتحلى بالمعارف الربانية .
( قال : لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون ) . .
وصرحت طبيعة الغرور والاستكبار والعصيان في ذلك المخلوق من نار السموم . وذكر إبليس الصلصال والحمأ ، ولم يذكر النفخة العلوية التي تلابس هذا الطين . وتشامخ برأسه المغرور يقول : إنه ليس من شأنه في عظمته أن يسجد لبشر خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون ! .
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له ، وتشريفه إياه بأمره الملائكة بالسجود له . ويذكر تخلف إبليس عدوّه عن السجود له من بين سائر الملائكة ، حَسَدًا وكفرًا ، وعنادًا واستكبارًا ، وافتخارًا بالباطل ، ولهذا قال : { لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ } كما قال في الآية الأخرى : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] وقوله : {[16155]} { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 62 ]
وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا ، من حديث شبيب بن بشر ، عن عِكْرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا سويته{[16156]} فاسجدوا له . قالوا : لا نفعل . فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة فقال لهم مثل ذلك ، [ فقالوا : لا نفعل . فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة أخرى فقال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم . ثم خلق ملائكة فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ]{[16157]} قالوا{[16158]} سمعنا وأطعنا ، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين{[16159]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيمٌ * وَإِنّ عَلَيْكَ اللّعْنَةَ إِلَىَ يَوْمِ الدّينِ } .
يقول تعالى ذكره : قالَ إبليس : لَمْ أكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ منْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وهو من طين وأنا من نار ، والنار تأكل الطين .
قوله : { لم أكن لأسجد } جُحود . وقد تقدم أنه أشد في النفي من ( لا أسجد ) في قوله تعالى : { ما يكون لي أن أقول } في آخر العقود [ المائدة : 116 ] .
وقوله : { لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون } تأييد لإبايَته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقِير ذميم لا يستأهل السجود . وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية ، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن . فشتّان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة : { إني خالق بشراً من صلصال من حمإ مسنون } وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل امتناعه من السجود للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة . وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ص ( 76 ) إذ قال : { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } ولم يحك عنه هنا .
وبمجموع ما حكي عنه هنا وهناك كان إبليس مصرحاً بتخطئة الخالق ، كافراً بصفاته ، فاستحق الطرد من عالم القدس . وقد بيناه في سورة ص .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال لم أكن لأسجد لبشر}، يعني: آدم، {خلقته من صلصال}، يعني: الطين، {من حمإ}، يعني: أسود، {مسنون}، يعني: منتن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قالَ إبليس:"لَمْ أكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ منْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ" وهو من طين وأنا من نار، والنار تأكل الطين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اللام في {لأسْجُدَ} لتأكيد النفي، ومعناه: لا يصحّ مني وينافي حالي، ويستحيل أن أسجد لبشر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقول إبليس {لم أكن لأسجد لبشر} ليس هذا موضع كفره عند الحذاق، لأن إبايته إنما هي معصية فقط، وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن الله خلق خلقاً مفضولاً وكلف أفضل منه أن يذل له، فكأنه قال: وهذا جور، وذلك أن إبليس لما ظن أن النار أفضل من الطين ظن أن نفسه أفضل من آدم فإن النار تأكل الطين، فقاس وأخطأ في قياسه، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله المالك للجميع لا رب غيره.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 28]
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له، وتشريفه إياه بأمره الملائكة بالسجود له. ويذكر تخلف إبليس عدوّه عن السجود له من بين سائر الملائكة، حَسَدًا وكفرًا، وعنادًا واستكبارًا، وافتخارًا بالباطل، ولهذا قال: {لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} كما قال في الآية الأخرى: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وقوله: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 62]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال لم أكن} وأكد إظهاراً للإصرار والإضرار بالكبر فقال: {لأسجد لبشر} أي ظاهر البدن، لا قدرة له على التشكل والتطور، {خلقته من صلصال} أي طين يابس لا منعة فيه، بل إذا نقر أجاب بالتصويت {من حمإ} أي طين متغير أسود كدر {مسنون} أي مصور بصورة الفخار متهيئ للدلك، لا يرد يد لامس، وأنا خير منه لأنك خلقتني من نار نافعة بالإشراق، ممتنعة ممن يريدها بالإحراق، فخضوعي له منافٍ لحالي وممتنع مني، وإلزامي به جور...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
اقتصر هاهنا على الإشارة الإجمالية إلى ادعاء الخيرية وشرف المادة اكتفاء بما صرح به حين قال:"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"، ولم يكتف اللعين بمجرد ذكر كونه عليه الصلاة والسلام من التراب... بل تعرض لكونه مخلوقاً منه في أخس أحواله من كونه طينا متغيرا، وقد اكتفى في سورة الأعراف وسورة ص بما حكي عنه هاهنا فاقتصر على حكاية تعرضه لخلقه عليه الصلاة والسلام من طين، وكذا في سورة بني إسرائيل حيث قيل: {أأسجد لمن خلقت طينا} وفي جوابه دليل على أن قوله تعالى: {ما لك} ليس استفسارا عن الغرض بل هو استفسار عن السبب، وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصي عن المناقشة وأنى له ذلك، كأنه قال: لم أمتنع عن امتثال الأمر ولا عن الانتظام في سلك الملائكة، بل عما لا يليق بشأني من الخضوع للمفضول، ولقد جرى، خذله الله تعالى، على سنن قياس عقيم وزل عنه أن ما يدور عليه فلك الفضل والكمال هو التحلي بالمعارف الربانية والتخلي عن الملكات الردية، التي أقبحها التكبر والاستعصاء على أمر رب العالمين جلا جلاله.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
...وفي تكرير قوله: {من صلصال...} تذكير للإنسان بأصله هذا المفضول، ليكون كابحا من جماح غوايته وشدة تمرده.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
...فاستكبر على أمر الله وأبدى العداوة لآدم وذريته وأعجب بعنصره، وقال: أنا خير من آدم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وصرحت طبيعة الغرور والاستكبار والعصيان في ذلك المخلوق من نار السموم. وذكر إبليس الصلصال والحمأ، ولم يذكر النفخة العلوية التي تلابس هذا الطين. وتشامخ برأسه المغرور يقول: إنه ليس من شأنه في عظمته أن يسجد لبشر خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون!.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{لم أكن لأسجد} جُحود. وقد تقدم أنه أشد في النفي من (لا أسجد) في قوله تعالى: {ما يكون لي أن أقول} في آخر العقود [المائدة: 116].
{لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} تأييد لإبايَته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقِير ذميم لا يستأهل السجود، وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن، فشتّان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة: {إني خالق بشراً من صلصال من حمإ مسنون} وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل امتناعه من السجود للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة. وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ص (76) إذ قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ولم يحك عنه هنا. وبمجموع ما حكي عنه هنا وهناك كان إبليس مصرحاً بتخطئة الخالق، كافراً بصفاته، فاستحق الطرد من عالم القدس. وقد بيناه في سورة ص.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والنفي نفي وجحود... {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} وكان هذا الذكي في غفلته؛ لأن خالق النار هو الذي أمره بأن يسجد، وهو أعلم بمن خلق...
وهكذا أفصح إبليس عما يكنه من فهم خاطئ لطبيعة العناصر؛ فقد توهم أن الطين والصلصال أقل مرتبة من النار التي خلقه منها الله. وامتناع إبليس عن السجود إذن امتناع معلل؛ وكأن إبليس قد فهم أن عنصر المخلوقية هو الذي يعطي التمايز؛ وتجاهل أن الأمر هو إرادة المعنصر الذي يرتب المراتب بحكمته، وليس على هوى أحدٍ من المخلوقات. ثم من قال: إن النار أفضل من الطين؟ ونحن نعلم أنه لا يقال في شيء إنه أفضل من الآخر إلا إذا استوت المصلحة فيهما؛ والنار لها جهة استخدام، والطين له استخدام مختلف؛ وأي منهما له مهمة تختلف عن مهمة الآخر. ومن توجيه الله في فضائل الخلق أن من يطلي الأشياء بالذهب لا يختلف عنده سبحانه عن الذي يعجن الطين ليصنع منه الفخار، فلا يفضل أحدهما الآخر إلا بإتقان مهمته. وهكذا أفصح إبليس أن الذي زين له عدم الامتثال لأمر السجود هو قناعته بأن هناك عنصراً أفضل من عنصر.