{ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } أي : احتسب بصبرك ، واقصد به وجه الله تعالى ، فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه ، وبادر إليه ، فأنذر الناس ، وأوضح لهم بالآيات البينات جميع المطالب الإلهية ، وعظم الله تعالى ، ودعا الخلق إلى تعظيمه ، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء ، وهجر كل ما يبعد عن الله{[1277]} من الأصنام وأهلها ، والشر وأهله ، وله المنة على الناس -بعد منة الله- من غير أن يطلب منهم على ذلك{[1278]} جزاء ولا شكورا ، وصبر لله أكمل صبر ، فصبر على طاعة الله ، وعن معاصي الله ، وعلى أقدار الله المؤلمة{[1279]} ، حتى فاق أولي العزم من المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
وقوله - سبحانه - : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } أى : وعليك - أيها الرسول الكريم - أن توطن نفسك على الصبر ، على التكاليف التى كلفك بها ربك ، وأن تتحمل الآلام والمشاق فى سبيل دعوة الحق ، بعزيمة صادقة ، وصبر جميل ، وثبات لا يخالطه تردد أو ضعف .
فهذه ست وصايا قد اشتملت على ما يرشد إلى التحلى بالعقيدة السليمة ، والأخلاق الكريمة .
ويوجهه أخيرا إلى الصبر . الصبر لربه : ( ولربك فاصبر ) . . وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت . والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة . معركة الدعوة إلى الله . المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب ؛ ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات وتدفعهم شياطين الأهواء ! وهي معركة طويلة عنيفة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله ، ويتجه به إليه احتسابا عنده وحده .
وقوله : وَلِرَبَكَ فاصْبِرْ يقول تعالى ذكره : ولربك فاصبر على ما لقيت فيه من المكروه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل على اختلاف فيه بين أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلِرَبّكَ فاصْبِرْ قال : على ما أوتيت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِرَبّكَ فاصْبِرْ قال : حمل أمرا عظيما محاربة العرب ، ثم العجم من بعد العرب في الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولربك فاصبر على عطيتك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وَلِرَبّكَ فاصْبِرْ قال : اصبر على عطيتك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : اصبر على عطيتك لله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : وَلِرَبّكَ فاصْبِرْ قال : عطيتك اصبر عليها .
تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم على تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاقّ الدعوة .
والصبر : ثبات النفس وتحملها المشاق والآلام ونحوها .
ومصدر الصبر وما يشتق منه يتضمن معنى التحمّل للشيء الشاقّ .
ويعدّى فعل الصبر إلى اسم الذي يتحمله الصابر بحرف ( على ) ، يقال : صبر على الأذى . ويتضمن معنى الخضوع للشيء الشاق فيعدى إلى اسم ما يتحمله الصابر باللام . ومناسبة المقام ترجح إحدى التعديتين ، فلا يقال : اصبر على الله ، ويقال : اصبر على حكم الله ، أو لحكم الله . فيجوز أن تكون اللام في قوله { لربّك } لتعدية فعل الصبر على تقدير مضاف ، أي اصبر لأمره وتكاليف وحيه كما قال : { واصبر لحكم ربّك فإنك بأعيننا } في سورة الطور ( 48 ) وقوله : { فاصبر لحكم ربّك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } في سورة الإِنسان ( 24 ) فيناسب نداءه ب { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] لأنه تدثر من شدة وقع رؤية المَلك ، وتركُ ذكر المضاف لتذهب النفس إلى كل ما هو من شأن المضاف إليه مما يتعلق بالمخاطب .
ويجوز أن تكون اللام للتعليل ، وحذف متعلق فعل الصبر ، أي اصبر لأجل ربّك على كل ما يشق عليك .
وتقديم { لربّك } على « ( اصبر ) للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة ، وجَعل بعضهم اللام في { لربّك } لام التعليل ، أي اصبر على أذاهم لأجله ، فيكون في معنى : إنه يصبر توكلاً على أن الله يتولى جزاءهم ، وهذا مبني على أن سبب نزول السورة ما لحق النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين .
والصبر تقدم عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة في } [ البقرة : 45 ] .
وفي التعبير عن الله بوصف ( ربّك ) إيماء إلى أن هذا الصبر برّ بالمولى وطاعة له .
فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في مبدإ رسالته وهي من جوامع القرآن أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته .