وبعد هذه المحاورات والمجادلات التي دارت بين شعيب وقومه ، جاءت الخاتمة التي حكاها القرآن في قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } . أى : فأخذتهم الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم هامدين صرعى لا حراك بهم .
قال ابن كثير ما ملخصه : أخبر - سبحانه - هنا بأنهم أخذتهم الرجفة ، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء ، كما أخبر عنهم في سورة هود بأنهم أخذتهم الصيحة ، والمناسبة هناك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا به في قولهم : { قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ } فجاءت الصيحة فأسكتتهم . وقال في سورة الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء } فأخبر - سبحانه - أنهم أصابهم عذاب يوم الظلة ، وقد اجتمع عليهم ذلك كله ، أصابهم عذاب يوم الظلة . وهى سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام " .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } . .
يقول : فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب الرجفة ، وقد بينت معنى الرجفة قبل ، وأنها الزلزلة المحرّكة لعذاب الله . فأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جاثِمِينَ على ركبهم موتى هلكى .
وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإلى مَدْيَنَ أخاهُمْ شُعَيْبا قال : إن الله بعث شعيبا إلى مَدْينَ ، وإلى أصحاب الأيكة والأيكة : هي الغيضة من الشجر وكانوا مع كفرهم يبخَسُون الكيل والميزان ، فدعاهم فكذّبوه ، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن ، وما ردّوا عليه ، فلما عتوا وكذّبوه ، سألوه العذاب ، ففتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم ، فأهلكهم الحرّ منه ، فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء ، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة ، فوجدوا برد الريح وطيبها ، فتنادوا : الظلة ، عليكم بها فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ، انطبقت عليهم ، فأهلكتهم ، فهو قوله : فَأخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمَ الظّلّةِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان من خبر قصة شعيب وخبر قومه ، ما ذكر الله في القرآن ، كانوا أهلَ بخْس للناس في مكاييلهم وموازينهم ، مع كفرهم بالله وتكذيبهم نبيهم وكان يدعوهم إلى الله وعبادته وترك ظلم الناس وبخسهم في مكاييلهم وموازينهم فقال نُصْحا لهم وكان صادقا : ما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُمْ إلى ما أنهاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاّ الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقي إلا باللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة إذا ذكر شعيبا ، قال : «ذَاكَ خَطِيبُ الأنْبِياءِ » لحسن مراجعته قومه فيما يراد بهم ، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم ، وعتوا على الله ، أخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ، فبلغني أن رجلاً من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء لما رآها قال :
يا قَوْمِ إنّ شُعَيْبا مُرْسَلٌ فَذَرُوا ***عَنْكُمْ سَمِيرا وعِمْرَانَ بْنَ شَدّادِ
إنّي أرَى غَيْمَةً يا قومِ قد طَلَعَتْ ***تَدْعُو بصَوْتٍ على صَمّانَة الوَادِي
وإنّكم إنْ تَرَوْا فِيها ضَحاةَ غَدٍ ***إلاّ الرّقِيمَ يُمَشّي بينَ أنجادِ
وسمير وعمران : كاهناهم ، والرقيم : كلبهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : فبلغني والله أعلم أن الله سلط عليهم الحرّ حتى أنضجهم ، ثم أنشأ لهم الظلة كالسحابة السوداء ، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون ببردها مما هم فيه من الحرّ ، حتى إذا دخلوا تحتها أُطبقت عليهم ، فهلكوا جميعا ، ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه برحمته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني أبو عبد الله البجلي ، قال : أبو جاد ، وهوّز ، وحُطي ، وسعفص ، وقرشت : أسماء ملوك مدين ، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب كلمون ، فقالت أخت كلمون تبكيه :
كَلَمُونُ هَدّ رُكْنِي ***هُلْكُهُ وَسْطَ المَحِلّهْ
( والفاء ) في : { فأخذتهم الرجفة } للتعقيب ، أي : كان أخذ الرجفة إياهم عقب قولهم لقومهم ما قالوا .
وتقدم تفسير : { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } في نظيرها من قصة ثمود .
والرجفة التي أصابت أهل مدين هي صواعق خرجت من ظُلة ، وهي السحابة ، قال تعالى في سورة الشعراء ( 189 ) . { فأخَذَهم عذابُ يوم الظلة } وقد عبر عن الرجفة في سورة هود بالصيحة فتعين أن تكون من نوع الأصوات المنشقة عن قالع ومقلوع لا عن قارع ومقروع وهو الزلزال ، والأظهر أن يكون أصابهم زلزال وصواعق فتكون الرجفة الزلزال والصيحة الصاعقة كما يدل عليه قوله : { كأن لم يَغْنَوا فيها } .