القول في تأويل قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُمَا فَعَزّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوَاْ إِنّآ إِلَيْكُمْ مّرْسَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومثل يا محمد لمشركي قومك مثلاً أصحابَ القرية ذُكر أنها أنطاكية ، إذْ جاءَها المُرْسَلُونَ . اختلف أهل العلم في هؤلاء الرسل ، وفيمن كان أرسلهم إلى أصحاب القرية ، فقال بعضهم : كانوا رسل عيسى بن مريم ، وعيسى الذي أرسلهم إليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاضْربْ لَهُمْ مَثَلاً أصحَابَ القَرْيَةِ إذْ جاءَها المُرْسَلُونَ إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُما فَعَزّزْنا بِثالِثٍ قال : ذُكر لنا أن عيسى بن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية مدينة بالروم فكذّبوهما ، فأعزّهما بثالث ، فَقالُوا إنّا إلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، قال : ثني السديّ ، عن عكرمة وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أصحَابَ القَرْيَةِ قال : أنطاكية .
وقال آخرون : بل كانوا رسلاً أرسلهم الله إليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار ، وعن وهب بن مُنَبه ، قال : كان بمدينة أنطاكية ، فرعون من الفراعنة يقال له أبطيحس بن أبطيحس يعبد الأصنام ، صاحب شرك ، فبعث الله المرسلين ، وهم ثلاثة : صادق ، ومصدوق ، وسلوم ، فقدم إليه وإلى أهل مدينته ، منهم اثنان فكذّبوهما ، ثم عزّز الله بثالث فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله ، وصدعت بالذي أُمرت به ، وعابت دينه ، وما هم عليه ، قال لهم : إنّا تَطَيّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنرْجُمَنّكُمْ وَلَيَمَسّنّكُمْ مِنّا عَذَابٌ ألِيمٌ .
أعقب وصف إعراضهم وغفلتهم عن الانتفاع بهدي القرآن بتهديدهم بعذاب الدنيا إذ قد جاء في آخر هذه القصة قوله : { إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم خامدون } [ يس : 29 ] .
والضرب مجاز مشهور في معنى الوضع والجعل ، ومنه : ضرب ختمه . وضربتْ بيتاً ، وهو هنا في الجعل وتقدم عند قوله تعالى : { إن اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً مَّا } في سورة البقرة ( 26 ) .
والمعنى : اجعل أصحاب القرية والمرسلين إليهم شَبهاً لأهل مكة وإرسالك إليهم .
و{ لهم } يجوز أن يتعلق ب { اضرب } أي اضرب مثلاً لأجلهم ، أي لأجل أن يعتبروا كقوله تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] . ويجوز أن يكون { لهم } صفة ل ( مثَل ) ، أي اضرب شبيهاً لهم كقوله تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] .
والمثل : الشبيه ، فقوله : { واضرب لهم مثلاً } معناه ونظّرْ مثلاً ، أي شَبِّه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين ، ولما غلب المثل في المشابه في الحال وكان الضرب أعم جُعل { مثلاً } مفعولاً ل { اضرب } ، أي نظّر حالهم بمشابه فيها فحصل الاختلاف بين { اضرب } ، و { مثلاً } بالاعتبار . وانتصب { مثلاً } على الحال .
وانتصب { أصحاب القرية } على البيان ل { مثلاً } ، أو بدل ، ويجوز أن يكون مفعولاً أول ل { اضرب } و { مثلاً } مفعولاً ثانياً كقوله تعالى : { ضرب اللَّه مثلاً قرية } [ النحل : 112 ] .
والمعنى : أن حال المشركين من أهل مكة كحال أصحاب القرية الممثل بهم .
و { القرية } قال المفسرون عن ابن عباس : هي ( أنطاكية ) وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان .
والمرسلون إليها قال قتادة : هم من الحواريين بعثهم عيسى عليه السلام وكان ذلك حين رُفِع عيسى . وذكروا أسماءهم على اختلاف في ذلك .
وتحقيق القصة : أن عيسى عليه السلام لم يدْعُ إلى دينه غير بني إسرائيل ولم يكن الدين الذي أرسل به إلا تكملة لما اقتضت الحكمة الإِلهية إكماله من شريعة التوراة ، ولكن عيسى أوصى الحواريين أن لا يغفلوا عن نهي الناس عن عبادة الأصنام فكانوا إذا رأوا رؤيا أو خطر لهم خاطر بالتوجه إلى بلد من بلاد إسرائيل أو مما جاورها ، أو خطر في نفوسهم إلهام بالتوجه إلى بلد علموا أن ذلك وحي من الله لتحقيق وصية عيسى عليه السلام . وكان ذلك في حدود سنة أربعين بعد مولد عيسى عليه السلام .
ووقعت اختلافات للمفسرين في تعيين الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أهل أنطاكية وتحريفات في الأسماء ، والذي ينطبق على ما في كتاب أعمال الرسل من كتب العهد الجديد{[338]} أن ( برنابا ) و ( شاول ) المدعو ( بُولس ) من تلاميذ الحواريين ووُصِفا بأنهما من الأنبياء ، كانا في أنطاكية مرسلَيْن للتعليم ، وأنهما عُززا بالتلميذ{[339]} ( سيلا ) . وذكر المفسرون أن الثالث هو ( شمعون ) ، لكن ليس في سفر الأعمال ما يقتضي أن بُولس وبرنابا عزّزا بسمعان . ووقع في الإِصحاح الثالث عشر منه أنه كان نبيء في أنطاكية اسمه ( سمعان ) .
والمكذبون هم من كانوا سكاناً بأنطاكية من اليهود واليونان ، وليس في أعمال الرسل{[340]} سوى كلمات مجملة عن التكذيب والمحاورة التي جرت بين المرسلين وبين المرسل إليهم ، فذكر أنه كان هنالك نفر من اليهود يطعنون في صدق دعوة بولس وبرنابا ويثيرون عليهما نساء الذين يؤمنون بعيسى من وجوه المدينة من اليونان وغيرهم ، حتى اضطر ( بولس وبرنابا ) إلى أن خرجا من أنطاكية وقصدا أيقونية وما جاورها وقاومهما يهود بعض تلك المدن ، وأن أحبار النصارى في تلك المدائن رأوا أن يعيدون بولس وبرنابا إلى أنطاكية . وبعد عودتهما حصل لهما ما حصل لهما في الأولى وبالخصوص في قضية وجوب الختان على من يدخل في الدين ، فذهب بولس وبرنابا إلى أورشليم لمراجعة الحواريين فرأى أحبار أورشليم أن يؤيدوهما برجلين من الأنبياء هما ( برسابا ) و ( سيلا ) . فأما ( برسابا ) فلم يمكث . وأما ( سيلا ) فبقي مع ( بولس وبرنابا ) يعظون الناس ، ولعل ذلك كان بوحي من الله إليهم وإلى أصحابهم من الحواريين . فهذا معنى قوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } إذ أسند الإرسال والتعزيز إلى الله .
والتعزيز : التقوية ، وفي هذه المادة معنى جعل المقوَّى عزيزاً فالأحسن أن التعزيز هو النصر .
وقرأ أبو بكر عن عاصم { فعززنا } بتخفيف الزاي الأولى ، وفعل عزّ بمعنى يحيي مرادفاً لعزّز كما قالوا شدّ وشدّد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.