فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَٰبَ ٱلۡقَرۡيَةِ إِذۡ جَآءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ} (13)

قوله : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية } قد تقدّم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة ، وسورة النمل ، والمعنى : اضرب لأجلهم مثلاً ، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً ، أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية ، فعلى الأوّل لما قال تعالى : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 3 ] وقال : { لِتُنذِرَ قَوْماً } [ يس : 6 ] قال : قل لهم : ما أنا بدعا من الرسل ، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون ، وأنذروهم بما أنذرتكم ، وذكروا التوحيد ، وخوّفوا بالقيامة ، وبشروا بنعيم دار الإقامة . وعلى الثاني لما قال : إن الإنذار لا ينفع من أضله الله ، وكتب عليه أنه لا يؤمن ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اضرب لنفسك ، ولقومك مثلاً : أي مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل ، ولم يؤمنوا ، وصبر الرسل على الإيذاء ، وأنت جئت إليهم واحداً ، وقومك أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية ، وأنت بعثتك إلى الناس كافة . والمعنى : واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية : أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، فترك المثل ، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب . وقيل : لا حاجة إلى الإضمار ، بل المعنى : اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً على أن يكون { مثلاً } و{ أصحاب القرية } مفعولين لاضرب ، أو يكون أصحاب القرية بدلاً من مثلاً ، وقد قدّمنا الكلام على المفعول الأوّل من هذين المفعولين هل هو : مثلاً ، أو أصحاب القرية . وقد قيل : إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ وامرأة لُوطٍ } [ التحريم : 10 ] ، ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة ، وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } [ إبراهيم : 45 ] أي بينا لكم أحوالاً بديعة غريبة : هي في الغرابة كالأمثال ؛ فقوله سبحانه هنا : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً } يصح اعتبار الأمرين فيه . قال القرطبي : هذه القرية هي : أنطاكية في قول جميع المفسرين .

وقوله : { إِذْ جَاءَهَا المرسلون } بدل اشتمال من أصحاب القرية ، والمرسلون : هم أصحاب عيسى ، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدّعاء إلى الله .

/خ27