الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَٰبَ ٱلۡقَرۡيَةِ إِذۡ جَآءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ} (13)

{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ } وهي أنطاكية { إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ } يعني رُسل عيسى : قالت العلماء بأخبار الأنبياء : بعث عيسى( عليه السلام ) رسولين من الحواريين إلى أنطاكية ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات وهو حبيب صاحب ( ياس ) ، فسلما عليه ، فقال الشيخ : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرَّحْمن . فقال : أمعكما آية ؟ قالا : نعم ، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله . فقال الشيخ : إنّ لي ابناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين . قالا : فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله .

فأتى بهما إلى منزله ، فمسحها ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً ، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيراً من المرضى ، وكان لهم ملك يقال له سلاحين ، وقال : وهب اسمه ابطيحيس ، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام ، قالوا : فانتهى الخبر إليه فدعاهما ، فقال لهما : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى . قال : وما آيتكما ؟ قالا : نبرئ الأكمه والأبرص ، ونُشفي المرضى بإذن الله . قال : وفيم جئتما ؟ قالا : جئناك ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يُبصر إلى عبادة من يسمع ويُبصر . فقال الملك : أو لنا إله سوى آلهتنا ؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك . قال : قوما حتى أنظر في أمركما . فتتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق .

وقال وهب بن منبه : بعث عيسى ( عليه السلام ) هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها فطالت مدة مقامهما ، فخرج الملك ذات يوم : فكبرا وذكرا الله ، فغضب الملك وأمر بهما فأُخذا وحُبسا وجلد كل واحد منهما مئة جلدة . قالوا : فلما كُذب الرسولان وضُربا ، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما .

فدخل شمعون البلدة متنكراً وجعل يُعاشر حاشية الملك حتى أنَسوا به فرُفع خبره إلى الملك فدعاه فرضى عشرته ، وآنس به وأكرمه . ثم قال له ذات يوم : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك ، فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك . قال : فإذا رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما .

فدعاهما الملك فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى ها هنا ؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك . فقال لهما شمعون : فصِفاهُ وأوجزا . فقالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يُريد . قال شمعون : وما آيتكما ؟ قالا له : ما تتمناه . فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة . فما زالا يدعوان ربّهما حتى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين فبصر بهما ، فتعجب الملك ، فقال شمعون للملك : أرأيت [ لو ] سألت إلهك حتى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك .

فقال له الملك : ليس عندي سر إنّ إلهنا الذي نعبده لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويُصلّي كثيراً ويتضرع ، حتى ظنوا أنه على ملتهم .

وقال الملك للرسولين : إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما . قالا : إلهنا قادر على كل شيء . فقال الملك : إنّ ها هنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابناً لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائباً .

فجاؤوا بالميت وقد تغيّر وأروح ، فجعلا يدعوان ربهما علانية ، وجعل شمعون يدعو ربه سراً . فقام الميت وقال : إني قد مُتُ منذ سبعة أيام ، ووُجدت مشركاً فأُدخلت في تسعة أودية من النار ، وأنا أُحذركم ما أنتم فيه ، فآمنوا بالله .

ثم قال : فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة . قال الملك : ومن الثلاثة ؟ قال : شمعون وهذان ، وأشار إلى صاحبيه . فتعجب الملك ، فلما علم شمعون أنّ قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه ، فآمن قوم وكان الملك فيمن آمن ، وكفر آخرون .

وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب : بل كفر الملك ، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل ، فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله سبحانه : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ } .