القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وهكذا كما فعل هؤلاء المشركون من قريش فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله ، وقالوا مثل قولهم ، لم نرسل مِن قبلك يا محمد في قرية ، يعني إلى أهلها رسلاً تنذرهم عقابنا على كفرهم بنا فأنذروهم وحذّروهم سخطنا ، وحلول عقوبتنا بهم إلاّ قال مُتْرَفوها ، وهم رؤساؤهم وكبراؤهم . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : إلاّ قالَ مُتْرَفُوها قال : رؤساؤهم وأشرافهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكَذلكَ ما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفُوها قادتهم ورؤوسهم في الشرك .
وقوله : إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ يقول : قالوا : إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين وَإنّا على آثارِهِمْ يعني : وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون بفعلهم نفعل كالذي فعلوا ، ونعبد ما كانوا يعبدون يقول جلّ ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : فإنما سلك مشركو قومك منهاج من قبلهم من إخوانهم من أهل الشرك بالله في إجابتهم إياك بما أجابوك به ، وردّهم ما ردّوا عليك من النصيحة ، واحتجاجهم بما احتجوا به لمُقامهم على دينهم الباطل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَإنّا على آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قال بفعلهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنّا على آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ فاتبعوهم على ذلك .
{ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم ، وأن مقدميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه ، وتخصيص المترفين إشعار بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد .
جملة معترضة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تمسك المشركين بدين آبائهم والإشارة إلى المذكور من قولهم : { إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ } [ الزخرف : 22 ] ، أي ومثل قولِهم ذلك ، قال المترفون من أهل القُرى المرسل إليهم الرسل من قبلك .
والواو للعطف أو للاعتراض وما الواو الاعتراضية في الحقيقة إلا تعطف الجملة المعترضة على الجملة التي قبلها عطفاً لفظياً .
والمقصود أن هذه شنشنة أهل الضلال من السابقين واللاحقين ، قد استووا فيه كما استووا في مَثاره وهو النظر القاصر المخطىء ، كما قال تعالى : { أتواصوا به بل هم قومٌ طَاغُون } [ الذاريات : 53 ] ، أي بل هم اشتركوا في سببه الباعث عليه وهو الطغيان . ويتضمن هذا تسليةً للرّسول صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه ، بأن الرّسل من قبله لَقُوا مثل ما لَقي .
وكاف التشبيه متعلق بقوله : { قال مترفوها } . وقدم على متعلَّقه للاهتمام بهذه المشابهة والتشويق لما يرد بعْدَ اسم الإشارة .
وجملة { إلا قال مترفوها } في موضع الحال لأن الاستثناء هنا من أحوال مقدّرة أي ما أرسلنا إلى أهل قرية في حاللٍ من أحوالهم إلا في حال قوللٍ قاله مترفوها : إنا وجدنا آباءنا الخ .
والمترَفون : جمع المُترف وهو الذي أُعطِي الترف ، أي النعمة ، وتقدم في قوله تعالى : { وارجِعُوا إلى ما أُترفتم فيه } في سورة الأنبياء ( 13 ) .
والمعنى : أنهم مثل قريش في الازدهاء بالنَّعمة التي هم فيها ، أي في بطر نعمة الله عليهم . فالتشبيه يقتضي أنهم مثل الأمم السالفة في سبب الازدهاء وهو ما هم فيه من نَعمة حتى نسوا احتياجهم إلى الله تعالى ، قال تعالى : { وذرْني والمكذبين أولي النَّعمة ومهّلهم قليلاً } [ المزمل : 11 ] .
وقد جاء في حكاية قول المشركين الحاضرين وصفُهم أنفسَهم بأنهم مُهتدون بآثار آبائهم ، وجاء في حكاية أقوال السابقين وصفهم أنفسَهم بأنهم بآبائهم مُقتدون ، لأن أقوال السابقين كثيرة مختلفة يجمع مختلفها أنها اقتداء بآبائهم ، فحكاية أقوالهم من قبيل حكاية القول بالمعنى ، وحكاية القول بالمعنى طريقة في حكاية الأقوال كثر ورودها في القرآن وكلام العرب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير} يعني من رسول فيما خلا.
{إلا قال مترفوها} يعني جباريها وكبراءها.
{إنا وجدنا آباءنا على أمة} يعني على ملة.
{وإنا على آثارهم مقتدون} بأعمالهم كما قال كفار مكة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وهكذا كما فعل هؤلاء المشركون من قريش فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله، وقالوا مثل قولهم، لم نرسل مِن قبلك يا محمد في قرية، يعني إلى أهلها رسلاً تنذرهم عقابنا على كفرهم بنا فأنذروهم وحذّروهم سخطنا، وحلول عقوبتنا بهم "إلاّ قال مُتْرَفوها"، وهم رؤساؤهم وكبراؤهم... وقوله: "إنّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمّةٍ "يقول: قالوا: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين، "وَإنّا على آثارِهِمْ" يعني: وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون بفعلهم نفعل كالذي فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون، يقول جلّ ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: فإنما سلك مشركو قومك منهاج من قبلهم من إخوانهم من أهل الشرك بالله في إجابتهم إياك بما أجابوك به، وردّهم ما ردّوا عليك من النصيحة، واحتجاجهم بما احتجوا به لمُقامهم على دينهم الباطل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إنه ليس ببديع من هؤلاء بل قال أوائلُهم لرسلهم كما قال قومك؛ يصبّره صلى الله عليه وسلم ويعزّيه، ويذكر سفههم في اتّباعهم إياهم واقتدائهم بهم، وهم بشر، فيقول: فإذا كنتم لا محالة تتّبعون البشر، فاتّبعوا أمر من هم أهدى من آبائهم، وهم الرسل...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إلا قال مترفوها" وهم الذين آثروا الترفه على طلب الحجة، وهم المتنعمون الرؤساء.
إنه تعالى بين أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه، إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة، وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال لقوله {إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة}...
وإذا عرفت هذا علمت أن رأس جميع الآفات حب الدنيا واللذات الجسمانية، ورأس جميع الخيرات هو حب الله والدار الآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... لما كان أهل القرى أقرب إلى العقل وأولى بالحكمة والحكم، قال: {في قرية} وأعرق في النفي بقوله: {من نذير} وبين به أن موضع الكراهة والخلاف الإنذار على مخالفة الأهواء.
{إلا قال مترفوها} أي أهل الترفه بالضم وهي النعمة والطعام الطيب والشيء الطريف يكون خاصة بالمترف، وذلك موجب للقلة وهو موجب للراحة والبطالة الصارف عن جهد الاجتهاد إلى سفالة التقليد، وهو موجب لركون الهواء ولو بان الدليل، وهو موجب للبغي والإصرار عليه واللجاجة فيه والتجبر والطغيان، ومعظم الناس في الأغلب أتباع لهؤلاء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَكَذَلِكَ ما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} يطلق الصرخة الفكرية والروحية التي تهز جمود الإنسان في فكره ومنهجه، وخطّه العبادي، وحركته الاجتماعية والسياسية، وتوجّه الناس إلى المستقبل المشرق الواعي المنفتح على الله، ليناقشوا كل مرتكزاتهم وموروثاتهم، على ضوء رسالات الأنبياء التي تريد لهم أن يؤسسوا فكر التوحيد في العقيدة والعبادة، انطلاقاً من النتائج السلبية التي تتأتى عن الفكر المضادّ.
{إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} الذين يملكون قرار الضغط على الحريات ليحددوا للناس خط السير الذي يتحركون فيه، {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّقْتَدُونَ} فهم القدوة التي لن ننفصل عنها في كل ما نريد أن نأخذ أو ندع، لأن ذلك يُحقق لنا الثبات في مواقعنا العائلية، وقيمنا التاريخية. وهو أسلوب انفعاليٌّ عاطفيٌّ هدفه خلق أجواء الإِثارة وتحريكها، وهو منطق يعتمده المترفون في مواجهة الفكر لتأكيد التقليد، والمحافظة على مواقعهم في الشهوات واللذات والامتيازات غير العادلة.. أمّا منطق الرسالة التي يحملها الأنبياء فهو منطق يوجه الفكر إلى الفصل بين الجانب العاطفي الذي يربط الأبناء بآبائهم والجانب العقلي الذي يقوِّم المضمون العقيدي الذي يلتزمونه، فالفكر لا يرتبط بالذات وأحاسيسها، بل بالحقيقة الموضوعية التي يصل إليها العقل عبر إقامة معادلةٍ عقليةٍ تتحرك في أجواء الفكر وفي ساحات الحوار، للوصول إلى النتائج التي تكشف للناس أحد السبيلين، وأقوى الفكرين.. وهذا ما عبرت عنه الآية التالية: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءكُمْ}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين في عبادتهم للأصنام، وهو تقليد الآباء والأجداد، فتقول: إن هذا مجرّد ادعاء واه من مشركي العرب: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون).
يستفاد من هذه الآية جيداً أنّ المتصدين لمحاربة الأنبياء، والذين كانوا يقولون بمسألة تقليد الآباء ويدافعون عنها بكل قوّة، كانوا من المترفين والأثرياء السكارى والمغرورين، لأنّ (المترف) من مادة (التَرَفُّه) أي كثرة النعمة، ولما كان كثير من المنعمين يغرقون في الشهوات والأهواء، فإنّ كلمة «المترف» تعني مَن طغى بالنعمة وغرق في سكرتها وأصبح مغروراً، ومصداق ذلك على الأغلب الملوك والجبابرة والأثرياء المستكبرون والأنانيون.
نعم، هؤلاء هم الذين تتعرض مصالحهم وأنانيّاتهم للفناء بثورة الأنبياء، ويحدق الخطر بمنافعهم وثرواتهم اللامشروعة، ويتحرّر المستضعفون من مخالبهم، ولهذا كانوا يسعون إلى تخدير الناس وإبقائهم جهلاء بمختلف الأساليب والحيل. وأغلب فساد الدنيا ينبع من هؤلاء المترفين الذين يتواجدون في أماكن الظلم والتعدي والمعصية والفساد والرذيلة.
وجدير بالذكر، أنّنا قرأنا في الآية السابقة أن هؤلاء كانوا يقولون: (إنّا على آثارهم مهتدون) وهنا يذكر القرآن أنّهم يقولون: (وإنا على آثارهم مقتدون) وبالرغم من أن التعبيرين يعودان إلى معنى واحد في الحقيقة، إلاّ أنّ التعبير الأوّل إشارة إلى دعوى أحقيّة مذهب الآباء، والتعبير الثّاني إشارة إلى إصرار هؤلاء وثباتهم على اتباع الآباء والاقتداء بهم.
وعلى أية حال فإنّ هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ليعلموا أن ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشيء الجديد، إذ أنّ هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التاريخ.