ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة ، وقال بها فقال : { وَكَذَلِكَ } أي الأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد ، وقوله { مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } استئناف مبين لذلك ، دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم ، ليس لأسلافهم أيضا مستند غيره ، قاله أبو السعود ، والمترفون الأغنياء والرؤساء والمتنعمون جمع مترف . اسم مفعول من أترف ، وأترفته النعمة أطغته .
قال الكرخي : هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم ، وأن من تقدمهم أيضا لم يكن لهم مستند منظور إليه ، وتخصيص المترفين للإشعار بأن التنعم هو الذي أوجب البطر ، وصرفهم عن النظر إلى التقليد انتهى . والأمة هي من الأم وهو القصد ، فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد ، ومقتدون أي متبعون ، قاله قتادة ، قال النسفي : وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان أن تقليد الآباء داء قديم اه .
قال الرازي في تفسيره : لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد ، وذلك لأنه تعالى بين أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ، ولا بدليل نقلي ثم بين أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف ، وإنما ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين ، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل .
ومما يدل عليه أيضا من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق ، وذلك لأنه كما حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة ، فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة ، فلو كان التقليد ، طريقا إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقا ، ومعلوم أن ذلك باطل ، وأنه تعالى بين أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا ، وحب الكسل والبطالة ، وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال ، لقوله : { إلا قال مترفوها } والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة ، أي أبطرتهم ، فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ، ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق اه .
أقول وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية ، منها ما ذكره ابن القيم ، وأنا أورده ههنا قال : يقال لمن حكم بالتقليد : هل لك من حجة فيما حكمت به ؟ فإن قال : نعم بطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد ، وإن قال : حكمت به بغير حجة ، قيل له : فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بالحجة قال الله عز وجل .
{ هل عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا } أي من حجة بهذا ، فإذا قال أنا أعلم أني قد أصبت ، وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كثيرا من العلماء ، وهو لا يقول إلا بحجة خفيت على قيل له : إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى ، لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك ، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك . فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن أبى ذلك نقض قوله ، وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ؟ ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما ؟ وهذا تناقض ، فإن قال لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه ، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك ، قيل له وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فليلزمه تقليده ، وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك ؛ فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله ، والأعلى للأدنى أبدا ، وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضا وفسادا .
قال أبو عمرو قال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين ، وإدراك المعلوم على ما هو به ، فمن بان له الشيء فقد علمه ، قالوا والمقلد لا علم له ، لم يختلفوا في ذلك ، ومن ههنا والله أعلم قال البحتري :
عرف العالمون فضلك بالعل *** م وقال الجهال بالتقليد
وأرى الناس مجمعين على فض *** لك من بين سيد ومسود
وقال أبو عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والإتباع ما ثبت عليه حجة . وقال في موضع آخر من كتابه كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك حجة قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح وكل من أوجب الدليل عليك إتباع قوله فأنت متبعه ، والإتباع في الدين مسوغ ، والتقليد ممنوع اه .
قال ابن حارث : هذا والله الدين الكامل والعقل الراجح . لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن اه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.