فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَكَذَٰلِكَ مَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ} (23)

ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة ، وقال بها فقال : { وَكَذَلِكَ } أي الأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد ، وقوله { مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } استئناف مبين لذلك ، دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم ، ليس لأسلافهم أيضا مستند غيره ، قاله أبو السعود ، والمترفون الأغنياء والرؤساء والمتنعمون جمع مترف . اسم مفعول من أترف ، وأترفته النعمة أطغته .

قال الكرخي : هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم ، وأن من تقدمهم أيضا لم يكن لهم مستند منظور إليه ، وتخصيص المترفين للإشعار بأن التنعم هو الذي أوجب البطر ، وصرفهم عن النظر إلى التقليد انتهى . والأمة هي من الأم وهو القصد ، فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد ، ومقتدون أي متبعون ، قاله قتادة ، قال النسفي : وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان أن تقليد الآباء داء قديم اه .

قال الرازي في تفسيره : لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد ، وذلك لأنه تعالى بين أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ، ولا بدليل نقلي ثم بين أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف ، وإنما ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين ، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل .

ومما يدل عليه أيضا من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق ، وذلك لأنه كما حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة ، فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة ، فلو كان التقليد ، طريقا إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقا ، ومعلوم أن ذلك باطل ، وأنه تعالى بين أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا ، وحب الكسل والبطالة ، وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال ، لقوله : { إلا قال مترفوها } والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة ، أي أبطرتهم ، فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ، ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق اه .

أقول وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية ، منها ما ذكره ابن القيم ، وأنا أورده ههنا قال : يقال لمن حكم بالتقليد : هل لك من حجة فيما حكمت به ؟ فإن قال : نعم بطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد ، وإن قال : حكمت به بغير حجة ، قيل له : فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بالحجة قال الله عز وجل .

{ هل عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا } أي من حجة بهذا ، فإذا قال أنا أعلم أني قد أصبت ، وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كثيرا من العلماء ، وهو لا يقول إلا بحجة خفيت على قيل له : إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى ، لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك ، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك . فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن أبى ذلك نقض قوله ، وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ؟ ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما ؟ وهذا تناقض ، فإن قال لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه ، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك ، قيل له وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فليلزمه تقليده ، وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك ؛ فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله ، والأعلى للأدنى أبدا ، وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضا وفسادا .

قال أبو عمرو قال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين ، وإدراك المعلوم على ما هو به ، فمن بان له الشيء فقد علمه ، قالوا والمقلد لا علم له ، لم يختلفوا في ذلك ، ومن ههنا والله أعلم قال البحتري :

عرف العالمون فضلك بالعل *** م وقال الجهال بالتقليد

وأرى الناس مجمعين على فض *** لك من بين سيد ومسود

وقال أبو عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والإتباع ما ثبت عليه حجة . وقال في موضع آخر من كتابه كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك حجة قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح وكل من أوجب الدليل عليك إتباع قوله فأنت متبعه ، والإتباع في الدين مسوغ ، والتقليد ممنوع اه .

قال ابن حارث : هذا والله الدين الكامل والعقل الراجح . لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن اه .