ثم أمره - سبحانه - بأن يعلن أمامهم بأن خوفه من خالقه يحتم عليه أن يبتعد عن كل معصية فقال :
{ قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
أى : قل لهم - يا محمد - على سبيل الإنذار والتحذير من الاستمرار فى الكفر إنى أخاف إن عصيت خالقى عذاب يوم عظيم الأهوال تذهل فيه { كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } وفى هذا التحذير أسمى ألوان التعبير والتصوير لأنه إذا كان النبى صلى الله عليه وسلم وهو أحب الخلق إلى الله سيناله العذاب إن كان - على سبيل الفرض والتقدير - قد عصى ربه فى الدنيا . فكيف بأولئك الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى ؟ فمن الواجب عليهم أن يقتدوا بالنبى صلى الله عليه وسلم فى عبادته وإخلاصه لربه .
وكلمة { عَذَابَ } مفعول لأخاف ، وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن عصيت ربى استحققت العذاب العظيم .
هذا استئناف مكرّر لما قبله ، وهو تدرّج في الغرض المشترك بينها من أنّ الشرك بالله متوعّد صاحبه بالعذاب وموعود تاركه بالرحمة . فقوله : { أغير الله أتّخذ وليّاً } [ الأنعام : 14 ] الآية رفض للشرك بالدليل العقلي ، وقوله : { قل إنّي أمرت أن أكون أوّل من أسلم } [ الأنعام : 14 ] الآية ، رفض للشرك امتثالاً لأمر الله وجلاله .
وقوله هنا : { قل إنّي أخاف } الآية تجنّب للشرك خوفاً من العقاب وطمعاً في الرحمة . وقد جاءت مترتّبة على ترتيبها في نفس الأمر .
وفهم من قوله : { إن عصيت ربّي } أنّ الآمر له بأن يكون أول من أسلم والناهي عن كونه من المشركين هو الله تعالى . وفي العدول عن اسم الجلالة إلى قوله : { ربّي } إيماء إلى أنّ عصيانه أمر قبيح لأنّه ربّه فكيف يعصيه .
وأضيف العذاب إلى { يوم عظيم } تهويلاً له لأنّ في معتاد العرب أن يطلق اليوم على يوم نصر فريق وانهزام فريق من المحاربين ، فيكون اليوم نكالاً على المنهزمين ، إذ يكثر فيهم القتل والأسر ويسام المغلوب سوء العذاب ، فذكر { يوم } يثير من الخيال مخاوف مألوفة ، ولذلك قال الله تعالى : { فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنّه كان عذاب يوم عظيم } [ الشعراء : 189 ] ولم يقل عذاب الظلّة أنّه كان عذاباً عظيماً . وسيأتي بيان ذلك مفصّلاً عند قوله تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن } في سورة التغابن ( 9 ) ، وبهذا الاعتبار حسَن جعل إضافة العذاب إلى اليوم العظيم كناية عن عظم ذلك العذاب ، لأنّ عظمة اليوم العظيم تستلزم عظم ما يقع فيه عرفاً .
وقوله : { من يصرف عنه يومئذٍ فقد رحمه } جملة من شرط وجزاء وقعت موقع الصفة ل { عذاب } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لهم يا محمد، {إني أخاف إن عصيت ربي}، إن رجعت إلى ملة آبائي، {عذاب يوم عظيم}، يعني بالعظيم: الشديد يوم القيامة. وقد نسخت: {إنا فتحنا} (الفتح: 1).
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين العادلين بالله الذين يدعونك إلى عبادة أوثانهم: إن ربي نهاني عن عبادة شيء سواه، وإني أخاف إن عصيت ربي فعبدتها،عذاب يوم عظيم، يعني عذاب يوم القيامة. ووصفه تعالى بالعظم لعظم هوله وفظاعة شأنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} قال ابن عباس رضي الله عنه قل يا محمد لكفار أهل مكة: {إني أخاف} أي أعلم {إن عصيت ربي} فعبدت غيره {عذاب يوم عظيم}. هذا التأويل صحيح، إن كان ما ذكر من سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضهم المال عليه ليعود، ويرجع إلى دينهم، فيخرج هذا على الجواب...
وقال بعضهم: قوله تعالى: {إني أخاف إن عصيت ربي} على الخوف. لكن لقائل أن يقول: كيف خاف عذاب يوم عظيم، وقد أخبر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ وكيف قال: {إن عصيت} وقد أخبر أنه عصمه، وغفر له؟ قيل: يحتمل أن تكون المغفرة له على شرط الخوف. غفر له ليخاف عذابه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي إنِّي بعجزي متحقق، ومن عذاب ربي مُشْفِق، وبمتابعة أمره مُتَخَلِّقٌ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ولفظة {عصيت} عامة في أنواع المعاصي، ولكنها هاهنا إنما تشير إلى الشرك الذي نهي عنه.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قوله تعالى: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} زعم بعض المفسرين أنه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب، ثم نسخ ذلك بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 3] والصحيح أن الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، وإنما هو معلق بشرط، ومثله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 66].
والمقصود أني إن خالفته في هذا الأمر والنهي صرت مستحقا للعذاب العظيم...فإن قيل: قوله: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} يدل على أنه عليه السلام كان يخاف على نفسه من الكفر والعصيان، ولولا أن ذلك جائز عليه لما كان خائفا. والجواب أن الآية لا تدل على أنه خاف على نفسه، بل الآية تدل على أنه لو صدر عنه الكفر والمعصية فإنه يخاف. وهذا القدر لا يدل على حصول الخوف، والله أعلم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب، والشرط معترض بين الفعل والمفعول به وجوابه محذوف دل عليه الجملة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والخوف ليس بحاصل لعصمته بل هو معلق بشرط هو ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم، وجوابه محذوف ولذلك جاء بصيغة الماضي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان فعل المنهي قد لا يعذب عليه، قال معلماً بأن المخالفة في هذا من أبلغ المخالفات، فصاحبها مستحق لأعظم الانتقام، وكل ذلك فطماً لهم عن الطمع فيه، وأكده لذلك ولإنكارهم مضمونه: {قل إني} ولما كان المقام للخوف، قدمه فقال: {أخاف إن عصيت} أي شيء مما تريدون مني أن أوافقكم فيه بما أمرت به أو نهيت عنه {ربي} أي المحسن إليّ {عذاب يوم} و لما كان عظم الظرف بعظم مظروفه قال: {عظيم}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وبعد هذا القول المبين لأصل الدعوة وأساس الدين وكون الداعي إليه مأمورا به كغيره – أمر الله رسوله بقول آخر في بيان جزاء من خالف ما ذكر من الأمر والنهي آنفا وأنه عام لا هوادة فيه ولا شفاعة تحول دونه فقال {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15)}
قدم ذكر الخوف على شرطه الذي شأنه أن يتقدمه لأنه هو الأهم المقصود بالذكر، وشرط « إن» لا يقتضي الوقوع، فالمعنى إن فرض وقوع العصيان مني لربي فإنني أخاف أن يصيبني عذاب يوم عظيم، وهو يوم القيامة، وصف بالعظم لعظمة ما يكون فيه من تجلي الرب سبحانه ومحاسبته للناس ومجازاته لهم. وحكمة هذا التعبير ما أشرنا إليه من أن هذا الدين دين الله الحق لا محاباة فيه لأحد مهما يكن قدره عظيما في نفسه. وأن يوم الجزاء لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة – بالمعنى المعروف عند المشركين – ولا سلطان لغير الله تعالى فيتكل عليه من يعصيه، ظنا أنه يخفف عنه أو ينجيه، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19] وإذا كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا لانتفائها بالعصمة فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له دائما.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأمر كذلك أن يقذف في قلوبهم بالرعب والترويع؛ في الوقت الذي يعلن فيه تصوره لجدية الأمر والتكليف ولخوفه هو من عذاب ربه، إن عصاه فيما أمر به من الإسلام والتوحيد:
(قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين)..
إنه تصوير لحقيقة مشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه أمر ربه له؛ وتجسيم لخوفه من عذابه. العذاب الذي يعتبر مجرد صرفه عن العبد رحمه من الله وفوزا مبينا. ولكنه في الوقت ذاته حمله مزلزلة على قلوب المشركين في ذلك الزمان، وقلوب المشركين بالله في كل زمان. حملة مزلزلة تصور العذاب في ذلك اليوم العظيم؛ يطلب الفريسة، ويحلق عليها، ويهجم ليأخذها. فلا تصرفه عنها إلا القدرة القادرة التي تأخذ بخطامه فتلويه عنها! وإن أنفاس القارئ لهذا التصوير لتحتبس -وهو يتمثل المشهد- في انتظار هذه اللقطة الأخيرة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفهم من قوله: {إن عصيت ربّي} أنّ الآمر له بأن يكون أول من أسلم والناهي عن كونه من المشركين هو الله تعالى. وفي العدول عن اسم الجلالة إلى قوله: {ربّي} إيماء إلى أنّ عصيانه أمر قبيح لأنّه ربّه فكيف يعصيه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي الموضع كلام في عصيان الأنبياء أيتصور وقوعه؟ ونقول إن الأنبياء معصومون عن العصيان ولكن الخوف من العصيان يعتريهم لأنهم لفرط إحساسهم بعظمة الله وإيمانهم بحسابه وعقابه وثوابه، ورقابتهم النفسية لله يكونون دائما في خوف ووجل، لا لتوقع العصيان ولكن رهبة من الديان. ولأن العصيان الجلي، غير متوقع عبر ب (إن) التي لا تدل على الوقوع فقال (إن عصيت ربي) وهنا فوق التعبير ب (إن) التعبير ب (ربي) فإنه يستبعد عصيان الرب الخالق المنمئ الكالئ الذي هو فوق كل شيء..