التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب} (8)

وبعد هذا التعديد لتلك النعم العظيمة ، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فى العبادة فقال - تعالى - : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب وإلى رَبِّكَ فارغب } .

وأصل الفراغ خول الإِناء مما بداخله من طعام أو غيره ، والمراد به هنا الخلو من الأعمال التى تشغل الإِنسان ، والنصب : التعب والاجتهاد فى تحصيل المطلوب .

أى : فإذا فرغت - أيها الرسول الكريم - من عمل من الأعمال ، فاجتهد فى مزاولة عمل آخر من الأعمال التى تقربك من الله - تعالى - ، كالصلاة ، والتهجد ، وقراءة القرآن الكريم .

واجعل رغبتك فى جميع أعمالك وعباداتك ، من أجل إرضاء ربك ، لا من أجل شيء آخر ، فهو وحده القادر على إبلاغك ما تريد ، وتحقيق آمالك .

فالمقصود بهاتين الآيتين حثه صلى الله عليه وسلم وحث أتباعه فى شخصه على استدامة العمل الصالح ، وعدم الانقطاع عنه ، مع إخلاص النية لله - تعالى - فإن المواظبة على الأعمال الصالحة مع الإخلاص فيها ، تؤدى إلى السعادة التى ليس بعدها سعادة .

ولقد استجاب صلى الله عليه وسلم لهذا الإِرشاد الحكيم ، " فقد قام الليل حتى تورمت قدماه ، وعندما سئل ما كل هذه العبادة ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ؟ قال : " أفلا أكون عبدا شكورا " .

وسار أصحابه من بعده على هذا الهدى القويم : فعمروا حياتهم بالباقيات الصالحات من الأعمال ، دون أن يكون للفراغ السيء مكان فى حياتهم ، بل واصلوا الجهاد بالجهاد ، وأعمال البر بمثلها .

ومن أقوال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - : إنى لأكره لأحدكم أن يكون خاليا ، لا فى عمل دنيا ولا دين " .

وفى رواية أنه قال : " إنى لأنظر إلى الرجل فيعجبني ، فإذا قيل : إنه لا عمل له سقط من عينى " .

نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا ممن يعمرون أوقاتهم بالأعمال الصالحة ، والخالصة لوجهه الكريم .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب} (8)

( وإلى ربك فارغب ) . . إلى ربك وحده خاليا من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم . . إنه لا بد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولا بد من العدة للجهاد . وهنا العدة . . وهنا ستجد يسرا مع كل عسر ، وفرجا مع كل ضيق . . هذا هو الطريق !

ختام السورة:

وتنتهي هذه السورة كما انتهت سورة الضحى ، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين : الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل الذي ينسم على روح الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من ربه الودود الرحيم . والشعور بالعطف على شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة التي اقتضت ذلك الود الجميل .

إنها الدعوة . هذه الأمانة الثقيلة وهذا العبء الذي ينقض الظهر . وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه ، ووصلة الفناء بالبقاء ، والعدم بالوجود !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب} (8)

وقوله : وَإلى رَبّكَ فارْغَبْ يقول تعالى ذكره : وإلى ربك يا محمد فاجعل رغبتك ، دون من سواه من خلقه ، إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَإلى رَبّكَ فارْغَبْ قال : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَإلى رَبّكَ فارْغَبْ قال : اجعل رغبتك ونيتك إلى ربك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَإلى رَبّكَ فارْغَبْ قال : إذا قمت إلى الصلاة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب} (8)

وإلى ربك فارغب بالسؤال ولا تسأل غيره فإنه القادر وحده على إسعافك ، وقرئ فرغب أي فرغب الناس إلى طلب ثوابه .

ختام السورة:

عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة ( ألم نشرح ) فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب} (8)

عُطِفَ على تفريع الأمر بالشكر على النعم أمر بطلب استمرار نعم الله تعالى عليه كما قال تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] .

والرغبة : طلب حصول ما هو محبوب وأصله أن يعدى إلى المطلوب منه بنفسه ويعدى إلى الشيء المطلوب ب ( في ) . ويقال : رغب عن كذا بمعنى صرَف رغبتهُ عنه بأن رغب في غيره وجُعل منه قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] بتقدير حرف الجر المحذوف قبل حرف ( أنْ ) هو حرف ( عَن ) . وذلك تأويل عائشة أم المؤمنين كما تقدم في سورة النساء .

وأما تعدية فعل { فارغب } هنا بحرف { إلى } فلتضمينه معنى الإِقبال والتوجه تشبيهاً بسير السائر إلى من عنده حاجته كما قال تعالى عن إبراهيم : { وقال إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] .

وتقديم إلى { ربك } على { فارغب } لإِفادة الاختصاص ، أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى .

وحُذف مفعول « ارغب » ليعم كل ما يرغبه النبي صلى الله عليه وسلم وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين .

واعلم أن الفاء في قوله : { فانصب } [ الشرح : 7 ] وقوله : { فارغب } رابطة للفعل لأن تقديم المعمول يتضمن معنى الاشتراط والتقييد فإن تقديم المعمول لما أفاد الاختصاص نشأ منه معنى الاشتراط ، وهو كثير في الكلام قال تعالى : { بل الله فاعبد } [ الزمر : 66 ] وقال : { وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر } [ المدثر : 3 5 ] ، وفي تقديم المجرور قال تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمَن سأل منه أن يَخرج للجهاد : " ألكَ أبَوان ؟ قال : نعم : فقال ففيهما فجاهد " . بل قد يعامل معاملة الشرط في الإِعراب كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم " كما تَكونُوا يُوَلَّ عليكم " بجزم الفعلين ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { فبذلك فليفرحوا } في سورة يونس ( 58 ) .

وذكر الطيبي عن « أمالي السيد » ( يَعني ابنَ الشَجَري ) أن اجتماع الفاء والواو هنا من أعجب كلامهم لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبَهَ الجوابَ بالاسم الناقص ، أو في صلة الموصول الفعلية ( لشبهها بالجواب ) ، وهي هنا خارجة عما وضعت له ا ه . ولا يبقى تعجب بعد ما قررناه .