{ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ وعد الله أيها الناس الذين صدّقوا الله ورسوله ، وأقرّوا بما جاءهم به من عند ربهم ، وعملوا بما واثقهم الله به ، وأوفّوا بالعقود التي عاقدهم عليها بقولهم : لنسمعنّ ولنطيعنّ الله ورسوله . فسمعوا أمر الله ونهيه ، وأطاعوه فعملوا بما أمرهم الله به ، وانتهوا عما نهاهم عنه . ويعني بقوله : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ : لهؤلاء الذين وَفّوْا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم مغفرة ، وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم ، وتغطيتها بعفوه لهم عنها ، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها . وأجْرٌ عَظِيمٌ يقول : ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم جزاء على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها أجر عظيم ، والعظيم من خير غير محدود مبلغه ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره .
فإن قال قائل : إن الله جلّ ثناؤه أخبر في هذه الاَية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولم يخبر بما وعدهم ، فأين الخبر عن الموعود ؟ قيل : بلى ، إنه قد أخبر عن الموعود ، والموعود هو قوله : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ .
فإن قال قائل : فإن قوله : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ خبر مبتدأ ، ولو كان هو الموعود لقيل : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما ، ولم يدخل في ذلك «لهم » ، وفي دخول ذلك فيه دلالة على ابتلاء الكلام ، وانقضاء الخبر عن الوعد ؟ قيل : إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرت فإنه مما اكتفى بدلالة ما ظهر من الكلام على ما بطن من معناه من ذكر بعض قد ترك ذكره فيه ، وذلك أن معنى الكلام : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ، ويأجرهم أجرا عظيما لأن من شأن العرب أن يصحبوا «الوعد » «أن » يعملوه فيها ، فتركت «أن » إذ كان الوعد قولاً ، ومن شأن القول أن يكون ما بعده من جمل الأخبار مبتدأ وذكر بعده جملة الخبر اجتزاء بدلالة ظاهر الكلام على معناه وصرفا للوعد الموافق للقول في معناه وإن كان للفظه مخالفا إلى معناه ، فكأنه قيل : قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجر عظيم . وكان بعض نحويي البصرة يقول : إنما قيل : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ الوعد الذي وعدوا ، فكان معنى الكلام على تأويل قائل هذا القول : وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم .
عُقّب أمرهم بالتّقوى بذكر ما وَعد الله به المتّقين ترغيباً في الامتثال ، وعطف عليه حال أضداد المتّقين ترهيباً . فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً . ومفعول { وعد } الثّاني محذوف تنزيلاً للفعل منزلة المتعدّي إلى واحد .
وجملة { لهم مغفرة } مبيّنة لجملة { وعد الله الذين آمنوا } ، فاستغني بالبيان عن المفعول ، فصار التقدير : وعد الله الّذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً لهم . وإنَّما عدل عن هذا النظم لما في إثبات المغفرة لهم بطريق الجملة الاسمية من الدلالة على الثبات والتقرّر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ" وعد الله أيها الناس الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرّوا بما جاءهم به من عند ربهم، وعملوا بما واثقهم الله به، وأوفّوا بالعقود التي عاقدهم عليها بقولهم: لنسمعنّ ولنطيعنّ الله ورسوله. فسمعوا أمر الله ونهيه، وأطاعوه فعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه. "لَهُمْ مَغْفِرَةٌ": لهؤلاء الذين وَفّوْا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم مغفرة، وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم، وتغطيتها بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها. "وأجْرٌ عَظِيمٌ": ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم جزاء على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها أجر عظيم، والعظيم من خير غير محدود مبلغه ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره.
فإن قال قائل: إن الله جلّ ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولم يخبر بما وعدهم، فأين الخبر عن الموعود؟ قيل: بلى، إنه قد أخبر عن الموعود، والموعود هو قوله: "لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ"...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والمغفرة لا تكون إلاَّ للذنب، فوصفهم بالأعمال الصالحات، ثم وعدهم المغفرة لِيُعْلَمَ أن العبد تكون له أعمال صالحة وإن كانت له ذنوب تحتاج إلى غفرانها، بخلاف ما تَوَهَّمَ مَنْ قال إن المعاصي تُحْبِطُ الطاعات.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدّم لهم وعداً فقيل: أي شيء وعده لهم؟ فقيل: لهم مغفرة وأجر عظيم. أو يكون على إرادة القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة. أو على إجراء وعد مجرى قال: لأنه ضرب من القول. أو يجعل واقعاً على الجملة التي هي لهم مغفرة، كأنه قيل: وعدهم هذا القول وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد هذا القول، فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم. وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة، فيسرون به ويستروحون إليه ويهوّن عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر سبحانه ونهى، بشر وحذر فقال: {وعد الله} أي الملك الذي له الكمال المطلق فله كل شيء {الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {وعملوا} تصديقاً لهذا الإقرار {الصالحات} وترك المفعول الثاني أقعد في باب البشارة، فإنه يحتمل كل خير، وتذهب النفس في تحريزه كل مذهب. ولما كان الموعود شيئين: فضلاً وإسقاط حق، قدم الإسقاط تأميناً للخوف، فقال واضعاً له موضع الموعود في صيغة دالة على الثبات والاختصاص: {لهم مغفرة} أي لما فرط منهم لما طبع الإنسان عليه من النقص نسياناً أو عمداً، بعمل الواجبات إن كان صغيرة، وبالتوبة إن كان كبيرة، وفيه إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره؛ ولما أمنهم بالتجاوز أتبعه الجود بالعطاء فقال {وأجر} أي على قدر درجاتهم من حسن العمل {عظيم} أي لا يدخل تفاوت درجاته تحت الحصر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولا بد من جزاء للمؤمنين من الله، الذي يتعاملون معه وحده؛ يشجع ويقوي على النهوض بتكاليف القوامة؛ وعلى الوفاء بالميثاق. ولا بد أن يختلف مصير الذين كفروا وكذبوا عن مصير الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لهم مغفرة وأجر عظيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم).. إنه الجزاء الذي يعوض الخيرين عما يفوتهم من عرض الحياة الدنيا -وهم ينهضون بالتكاليف العليا- والذي تصغر معه تكاليف القوامة على أهواء البشرية وعنادها ولجاجها في هذه الأرض.. ثم هو العدل الإلهي الذي لا يسوي بين جزاء الخيرين وجزاء الأشرار! ولا بد من تعليق قلوب المؤمنين وأنظارهم بهذا العدل وبذلك الجزاء. لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة من ملابسات الحياة.. وبعض القلوب يكفيها أن تشعر برضاء الله؛ وتتذوق حلاوة هذا الرضى؛ كما تتذوق حلاوة الوفاء بالميثاق.. ولكن المنهج يتعامل مع الناس جميعا. مع الطبيعة البشرية. والله يعلم من هذه الطبيعة حاجتها إلى هذا الوعد بالمغفرة والأجر العظيم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا هو الوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، وهو الذي واثقكم به من جانبه، جل جلاله، في نظير السمع والطاعة والاستجابة لما أمر الله تعالى به ونهى عنه. وإن ذلك الوعد إنما يستحقه الذين قاموا بما ألزمهم به الميثاق وهو الإيمان والطاعة إذ قالوا سمعنا وأطعنا وقد عبر الله تعالى عن السمع والاستجابة للسماع والإنصات للأدلة والإذعان لها بالإيمان فالإيمان هو العماد الذي يقوم عليه الميثاق الذي التزمه المؤمنون، والطاعة لأوامر الله تعالى هي التي عبر الله تعالى عنها بقوله تعالى: {وعملوا الصالحات} وما من مقام ذكر فيه المؤمنون بالمدح إلا اقتران به قيامهم بالعمل الصالح، لأن العمل الصالح ثمرته، ومثل الإيمان من غير عمل صالح يقدمه المؤمن كمثل شجرة جرداء لا تثمر ثمرا ولا تظل مستظلا والأكثرون من العلماء على أن الإيمان ناقص إذا لم يصحبه عمل، لأن الإيمان يزيد وينقص عند كثيرين ويزيد ولا ينقص عند آخرين، وعند هؤلاء يكون الإيمان من غير عمل إيمانا غير كامل. والعمل الصالح الذي هو الطاعة والذي هو استجابة لأوامر الله تعالى ونواهيه، هو العمل الذي يكون فيه نفع للناس، ودفع للفساد في الأرض، وليس فيه ما يسوء أهل الخير، وقد جاء في كتاب غريب القرآن للأصفهاني:"الصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة قال تعالى: {...خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا... (102)} (التوبة)، وقال تعالى: {...ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها... (85)} (الأعراف).وقال تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} في مواضع كثيرة وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد إصلاحه، وتارة بالحكم له بالصلاح". وإذا كان عمل الصالحات هو استجابة المؤمن لأمر الله ونهيه أو تنفيذ لقول المؤمنين: "سمعنا وأطعنا "فمؤدى ذلك أن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما فيه صلاح أمورهم ورفع الفساد عنهم، فما من أمر كلف الله تعالى عباده أن يقوموا به إلا كان فيه صلاح لهم ومنفعة، وما من أمر نهاهم عنه إلا كان فيه مفسدة، وعلى مقدار ما في الشيء من نفع تكون قوة المطالبة به، وعلى مقدار ما فيه من شر يكون مقدار النهي عنه، وبذلك يتبين أن الشرع الإسلامي كله جاء لخير العباد وصلاحهم والرحمة بهم، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)} (الأنبياء)
وحين يقول:"وعد الله" فهذا وعد مطلق لا إخلال به، لأن الذي يخل بالوعد هو الإنسان الذي تعتريه الأغيار، فقد يأتي ميعاد الوفاء بالوعد ويجد الإنسان نفسه في موقف العاجز أو موقف المتغير قلبيا لكن ساعة يكون الله هو الذي وعد فسبحانه الذي لا تداخله الأغيار، بل هو الذي يجري الأغيار لذلك يكون وعده هو الوعد الخالص الذي لا توجد قوة أخرى تحول دون أن ينفذ الله وعده، أما وعد البشر فقد تأتي قوة أخرى تعطل هذا الوعد. "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة "سبحانه وتعالى يوضح أن مغفرته لكل عباده ولا يختص فقط الصالحين الورعين بل إنه يوجه حديثه إلى هؤلاء الذين ارتكبوا المعاصي فإن تابوا، فلهم مغفرة لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.