ثم وصف - سبحانه - الخائضين فى حديث الإفك بالكذب لأنهم قالوا قولا بدون دليل ، فقال : { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } أى : وما داموا لم يأتوا بهم - ولن يأتوا بهم - { فأولئك عِندَ الله } أى : فى حكمه - سبحانه - وفى شريعته { هُمُ الكاذبون } كذبا قبيحا تشمئز منه النفوس ، ويسجل عليهم الخزى والعار إلى يوم القيامة .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشّهَدَآءِ فَأُوْلََئِكَ عِندَ اللّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : هلا جاء هؤلاء العصبة الذين جاءوا بالإفك ، ورمَوا عائشة بالبهتان ، بأربعة شهداء يشهدون على مقالتهم فيها وما رَمَوها به فإذا لم يأتوا بالشهداء الأربعة على حقيقة ما رمَوْها به فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ الكاذِبُونَ يقول : فالعُصْبة الذين رَمَوها بذلك عند الله هم الكاذبون فيما جاءوا به من الإفك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر الذين قذفوا عائشة، فقال: {لولا} يعني: هلا {جاءوا عليه} يعني: على القذف {بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء}: بأربعة شهداء {فأولئك عند الله هم الكاذبون}، في قولهم، يعني: الذين قذفوا عائشة، رحمها الله.
قال الشافعي رحمه الله: فلا يجوز في الزنا الشهود أقل من أربعة بحكم الله عز وجل ثم بحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا لم يكملوا أربعة فهم قذفة، وكذلك حكم عليهم عمر بن الخطاب فجلدهم جلد القذفة. ولم أعلم بين أحد لقيته ببلدنا اختلافا فيما وصفت من أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة، وأنهم إذا لم يكملوا أربعة حدُّوا حَدَّ القذف، وليس هكذا شيء من الشهادات غير شهود الزنا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هلا جاء هؤلاء العصبة الذين جاءوا بالإفك، ورمَوا عائشة بالبهتان، بأربعة شهداء يشهدون على مقالتهم فيها وما رَمَوها به فإذا لم يأتوا بالشهداء الأربعة على حقيقة ما رمَوْها به "فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ الكاذِبُونَ "يقول: فالعُصْبة الذين رَمَوها بذلك عند الله هم الكاذبون فيما جاءوا به من الإفك.
قد أبانت هذه الآية عن معنيين، أحدهما: أن الحد واجب على القاذف ما لم يأت بأربعة شهداء، والثاني: أنه لا يُقبل في إثبات الزنا أقَلُّ من أربعة شهداء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جعل الله التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب: ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها، والذين رموا عائشة رضي الله عنها لم تكن لهم بينة على قولهم، فقامت عليهم الحجة وكانوا {عَندَ الله} أي في حكمه وشريعته كاذبين. وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع: من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين، فكيف بأمّ المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبة حبيب الله؟
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ من الْقَذْفِ الظَّاهِرِ مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ صِدْقٌ، وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ فِي الظَّاهِرِ بِحُكْمِ الْكَاذِبِ، وَيُجْلَدُ الْحَدَّ. وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله: {عِنْدَ اللَّهِ} يُرِيدُ فِي حُكْمِهِ، لَا فِي عِلْمِهِ، وَهُوَ إنَّمَا رَتَّبَ الْحُدُودَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا، لَا مُقْتَضَى عِلْمِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ الْآخِرَةِ.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الخائضينَ وما فيه من معنى البُعد للإيذان بغلوهم في الفسادِ وبُعد منزلتهم في الشَّرِّ أي أولئك المُفسدون...
{هُمُ الكاذبون} الكاملونَ في الكذب المشهودُ عليهم بذلك المستحقُّون لإطلاقِ الاسمِ عليهم دُونَ غيرهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ولم يقل "فأولئك هم الكاذبون "وهذا كله، من تعظيم حرمة عرض المسلم، بحيث لا يجوز الإقدام على رميه، من دون نصاب الشهادة بالصدق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ثان لتوبيخ العُصبة الذين جاءوا بالإفك وذم لهم. و (لولا) هذه مثل (لولا) السابقة بمعنى (هلا).
والمعنى: أن الذي يخبر خبراً عن غير مشاهدة يجب أن يستند في خبره إلى إخبار مشاهد، ويجب كون المشاهدين المخبرين عدداً يفيد خبرهم الصدق في مثل الخبر الذي أخبروا به؛ فالذين جاءوا بالإفك اختلقوه من سوء ظنونهم فلم يستندوا إلى مشاهدة ما أخبروا به ولا إلى شهادة من شاهدوه ممن يقبل مثلهم فكان خبرهم إفكاً. وهذا مستند إلى الحكم المتقرر من قبل في أول السورة بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4]...
وصيغة الحصر في قوله: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذباً فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب.
واسم الإشارة لزيادة تمييزهم بهذه الصفة ليحذر الناس أمثالهم.
والتقييد بقوله: {عند الله} لزيادة تحقيق كذبهم، أي هو كذب في علم الله فإن علم الله لا يكون إلا موافقاً لنفس الأمر. وليس المراد ما ذكره كثير من المفسرين أن معنى {عند الله} في شرعه لأن ذلك يصيره قيداً للاحتراز. فيصير المعنى: هم الكاذبون في إجراء أحكام الشريعة. وهذا ينافي غرض الكلام ويجافي ما اقترن به من تأكيد وصفهم بالكذب؛ على أن كون ذلك هو شرع الله معلوم من قوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلودهم ثمانين جلدة} [النور: 4] إلى قوله: {فأولئك عند الله هم الكاذبون}. فمسألة الأخذ بالظاهر في إجراء الأحكام الشرعية مسألة أخرى لا تؤخذ من هذه الآية.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 12]
ووجه كتاب الله الخطاب إلى فريق من ضعفاء المؤمنين الذين أثرت في نفوسهم بعض التأثير إشاعة عصبة الإفك والنفاق، يعاتبهم ويبين لهم الموقف السليم الذي يجب أن يقفوه من مثل هذه الإشاعات الملفقة، التي يتحتم البحث عن مصدرها، والغرض المقصود منها، والتحري عنها من جميع الوجوه. ونفس هذا الخطاب موجه إلى جميع المؤمنين، بالنسبة لقصة الإفك ولجميع قصص الإفك الأخرى، التي يمكن أن تصدر عن أعداء الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شهداء} فالحكم بكذب هؤلاء ينطلق من عدم تقديمهم الحجة الشرعية التي تثبت ما تحدثوا عنه من زنى، فلو كانوا صادقين لأقاموا الشهادة، {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بالشهداء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكاذبون}، لأن الدعوى التي لا ترتكز على قاعدة ثابتة، لا قيمة عملية لها في حسابات الصدق، لا سيّما إذا طالت كرامات المؤمنين وأعراضهم، ما يجعل المخبر إنساناً ظالماً في كلماته، التي لا تمثل إلا الشرّ المتحرك في شخصيته، لأنه يعلم أن كلماته لا تثبت مضمونها، فلا يبقى منها إلا تشويه الصورة، وإثارة البلبلة في صفوف المؤمنين. وقد تكون هذه الآية من بين المصادر الشرعية التي تشير إلى قاعدة الحمل على الصحة في فعل المسلم عند احتمال صدور الفعل منه على الوجه القبيح، سواء دار الأمر بين صدور الفعل القبيح منه، أو عدم صدور شيء منه أصلاً، أو دار أمر الفعل الصادر منه بين العنوان القبيح والعنوان الحسن، فإن الأصل في فعله أن يحمل على الخير، لا بمعنى تأكيد صدور الخير منه وإثبات ذلك في فعله على سبيل الحكم، بل بمعنى أن لا يحمل فعله على الشرّ، فلا يحكم عليه بالظن الناشئ من النظرة السريعة، أو الإشاعة الطائرة.. كما هي القاعدة المعروفة التي تقول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، بمعنى التعامل معه على أساس البراءة.. وهكذا يريد الإسلام أن يغلّب جانب الخير في شخصية المؤمن، من خلال ما يوحيه إيمانه من ذلك، فإن طبيعة التزامه بالإسلام عقلاً وروحاً تقتضي اعتبار الخير هو الأصل في حياته حتى يثبت العكس.