في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (71)

65

كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل ، على علم وعن عمد وفي قصد . . وهو أمر مستنكر قبيح !

وهذا الذي ندد الله به - سبحانه - من أعمال أهل الكتاب حينذاك ، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة . . فهذا طريقهم على مدار التاريخ . . اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى . ثم تابعهم الصليبيون !

وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون ! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله - اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين - والحمد لله على فضله العظيم .

دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله . ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود . ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيها لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق . ودسوا ولبسوا في الرجال أيضا . فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي - وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : إنهم مسلمون . والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية ، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين !

وما يزال هذا الكيد قائما ومطردا . وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ ؛ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (71)

وقوله تعالى : { لم تلبسون الحق } معناه تخلطون ، تقول لبست الأمر بفتح الباء بمعنى خلطته ، ومنه قوله تعالى : { وللبسنا عليهم ما يلبسون }{[3239]} وتقول : لبست الثوب بكسر الباء ، قال ابن زيد : { الحق } الذي لبسوه هو التوراة المنزلة ، و«الباطل » الذي لبسوه به هو ما كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى التوراة ، وقال ابن عباس : { الحق } إسلامهم بكرة ، و«الباطل » كفرهم عشية ، والآية نزلت في قول عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف{[3240]} ، تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وجه النهار ، ونكفر آخره ، عسى أن نلبس على المسلمين أمرهم ، وقال قتادة وابن جريج : { لم تلبسون الحق بالباطل } معناه لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : فكأن هذا المعنى لم تبقون على هذه الأديان وتوجدونها ؟ فيكون في ذلك لبس على الناس أجمعين ، وقال بعض المفسرين : { الحق } الذي لبسوه قولهم : محمد نبي مرسل ، و«الباطل » الذي لبسوه به قول أحبارهم : لكن ليس إلينا ، بل ملة موسى مؤبدة ، وقوله تعالى : { وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } يريد شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، كذلك قال الربيع وابن جريج وقتادة وغيرهم ، وفي قوله : { وأنتم تعلمون } توقيف على العناد ظاهر ، قال أبو إسحاق الزجّاج : ولو قيل وتكتموا الحق لجاز على قولك ، لم تجمعون ذا وذا ، على أن تكتموا في موضع نصب على الظرف{[3241]} في قول الكوفيين ، وبإضمار «أن » ، في قول أصحابنا ، قال أبو علي : الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار «أن » ، لأن { تكتمون } ، معطوف على موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : أتأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة قولك أتقوم فأقوم والعطف على الموجب مقرر وليس بمستقيم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب إلا في ضرورة شعر كما روي : [ الرجز ]

وألحقُّ بالحِجَازِ فاسْتَرِيحَا{[3242]} .

وقد قال سيبويه في قولك : أسرت حتى تدخل المدينة ؟ لا يجوز إلا النصب في- تدخل - ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب ، وإذا قلت : أيهم سار حتى يدخلها ؟ رفعت ، لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره .


[3239]:- من الآية (9) من سورة الأنعام.
[3240]:- عبد الله بن الصيف وعدي من أحبار بني قينقاع؛ وفي سيرة ابن هشام: ابن صيف، ويقال: ابن ضيف، وفي بعض نسخ تفسير ابن عطية: الضيف، وعند القرطبي: مالك بن الصيف؛ أما الحارث فكان من أحبار بني قريظة.
[3241]:- في بعض النسخ "على الصرف"-وهو أن تعطف الواو ما لا يستقيم أن يعاد فيه الحادث الذي فيما قبله-ولعلها أقرب إلى الصواب.
[3242]:- البيت للمغيرة بن حبناء الحنظلي، وصدره: سأترك منزلي لبني تميم (الخزانة 3/600)
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (71)

إعادة ندائهم بقوله : { يا أهل الكتاب } ثانيةً لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم . ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة ، حتى ارتفعت الثقة بجميعه . وكتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوّضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم ، وهم يعلمونها ولا يعملون بها .