اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (71)

قرأ العامة : { تَلْبِسُونَ } بكسر الباء ، من لبس عليه يلبس ، أي : خلَطه ، وقرأ يحيى بن وثَّابٍ بفتحها{[5595]} جعله من لبست الثوب ألبسه -على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز " تُلبِّسُون " - بضم التاء ، وكسر الباء وتشديدها{[5596]} - من لبَّس " بالتشديد " ، ومعناه التكثير .

والباء في " الباطل " للحال ، أي : متلبساً بالباطل .

فصل في معنى : تلبسون الحق

{ تَلْبِسُونَ } تخلطون { الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } الإسلام باليهودية والنصرانية {[5597]} .

وقيل : تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل- .

وقيل : التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل ، الذي حرَّفتموه ، وكتبتموه بأيدكم ، قاله الحسنُ وابن زيد {[5598]} .

وقال ابنُ عباس وقتادةُ : تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس{[5599]} .

قال القاضي : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه ، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر .

وقيل إنهم كانوا يقولون : إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ ، وكل ذلك إلقاء للشبهات .

قوله : { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ } جملة مُسْتَأنَفةٌ ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار " أن " في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاجُ{[5600]} -من البصريين- والفرّاءُ{[5601]} - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون ، فينتصب على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار " أن " عند البصريين .

ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ ، وأنكَرَه ، وقال : الاستفهام واقع على اللبس فحسب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حتم ، لا يجوز فيه إلا الرفع . يعني أنه ليس معطوفاً على { تَلْبِسُونَ } ، بل هو استئناف ، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ .

ونقل أبو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال : الصَّرْف - هنا - يَقْبُح ، وكذلك إضمار " أن " لأن " تَكتُمُونَ " معطوف على موجب مقرَّر ، وليس بمستفهَم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم : لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ ، وليس بمنزلة قولك : أيقومُ فأقومَ ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي : [ الوافر ]

. . . *** وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا{[5602]}

قال سيبويه - في قولك : أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا - : لا يجوز إلا النَّصْبُ في " تدخلها " لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب ، وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلُها ؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره .

قال أبو حيّان : وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله ؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب ، وأما { يَكْتُمُونَ } فخبر حَتْماً ، لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أنَّ { يَكْتُمُونَ } معطوف على موجَب مقرَّر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس ، وسبب الكَتْم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى ، وبين أن يكون { يَكْتُمُونَ } إخْباراً محضاً ، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل ، لا ينتصب الفعل بإضمار " أن " في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك ، فقال في تسهيله : " أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ " .

فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه ، نحو : لِمَ ضربتَ زيداً فيجازِيَك ؛ لأن الضرب قد وقع . ولم يشترط غيرُهما - من النحويين - ذلك ، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله - إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل ، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال ؛ لأجل مُضِيِّ الفعل - فإنما يقدر مصعد مقدَّراً استقبالُه بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لِمَ ضربتَ زيداً فأضْرِبَك ؟ فالتقدير : ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا ، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم ؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك ؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم - أيضاً - لأنه - كما تقدم - إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ ، محقَّق الوقوع ، مستفهَم عنه ، نحو : أين ذهب زيد فنتَّبعُه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ وكم مالك فنعرفُه ؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة ، فإن التقدير : ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا ، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا ، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا .

قال شهابُ الدِّينِ : " وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ ، فإنه لم يُقْرَأ - لا في الشاذ ولا في غيره - إلا ثابتَ النون ، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث ، تنقيحاً للذهن " .

ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة ، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير{[5603]} ، وهي : لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين - وهي قراءة لا تَبْعد عن [ لَغطِ البحث ] {[5604]} ، كأنه توهم أن " لَمْ " هي الجازمة ، فجزم بها ، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على " لم " - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم ، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة ، كيف يقولون في جار ومجرور : إنه يَجْزِم ؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه ، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً ؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها ، ومن ذلك قراءة بعضهم : { قالوا ساحران تظَّاهرا } [ القصص : 48 ] - بتشديد الظاء - الأصل : تتظاهران ، فأدغم الثاني في الظاء ، وحذف النون تخفيفاً ، وفي الحديث : " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا . . " يريد - عليه السلامُ - : لا تدخلون ، ولا تؤمنون ؛ لاستحالة النهي معنًى .

وقال الشاعرُ : [ الرجز ]

أبِيتُ أسْرِي ، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي *** وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي{[5605]}

يريد تبيتين وتدلُكين .

ومثله قول أبي طالب : [ الطويل ]

فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ *** سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ{[5606]}

يريد : ستحتلبونها .

ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط ، لأن الفاء مُرادَة وجوباً ؛ لعدم صلاحية " ستحتلبوها " جواباً ؛ لاقترانه بحرف التنفيس .

والمراد بالحق : الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة .

قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، ومتعلق العلم محذوف ، إما اقتصاراً ، وإما اختصاراً - أي : وأنتم تعلمون الحق من الباطل ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم ، وتعلمون أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسداً .

فصل في كلام القاضي

قال القاضي : قوله تعالى : { لِمَ تَكْفُرُونَ } ؟ و { لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } يدل على أن ذلك فعلهم ؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ، ثم يقول : لِمَ فعلتم ؟

وجوابه : أن الفعل يتوقف على الداعية ، فتلك الداعية إن حدثت لا لِمُحْدِث لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى ، وإن كان مُحْدِثُها هو الله - تعالى - لزمكم ما ألزمتموه علينا .


[5595]:ينظر: الشواذ 21، والبحر المحيط 2/515، والدر المصون 2/132.
[5596]:ينظر: البحر المحيط 2/515، والدر المصون 2/132.
[5597]:أخرجه الطبري في تفسيره" (6/504) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/75) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس.
[5598]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/505) عن ابن زيد.
[5599]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/507- 508) عن قتادة والسدي وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في "المختارة" من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس في "الدر المنثور" (2/75- 76).
[5600]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/435.
[5601]:معاني القرآن للفراء1/221.
[5602]:تقدم برقم 759.
[5603]:ينظر: البحر المحيط 2/516، والدر المصون 2/133.
[5604]:في أ: الغلط.
[5605]:ينظر البيت في الخصائص1/388 والمحتسب 2/22 واللسان (دلك) ورصف المباني 361 والهمع 1/51 والدر 1/27 والتوضيح والتصحيح ص 173 والارتشاف 1/421 وشرح التصريح 1/111 وشرح الجمل 2/594 وضرائر الشعر ص 110 والدرر اللوامع 1/27 والخزانة 8/339 والدر المصون 2/133.
[5606]:ينظر البيت في شرح الكافية الشافية 1/211 والسيرة النبوية 1/278 والبحر المحيط 2/516 وشواهد التوضيح 173 والدر المصون 2/133.