الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (71)

قوله تعالى : { لِمَ تَلْبِسُونَ } : قرأ العامة بكسر الباء من لَبَس عليه يَلْبِسُه أي خلطه . وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها جعله من لَبِسْت الثوب أَلْبَسُه على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز : " تُلبِّسُون " بضم التاءِ وكسر الباء وتشديدها من لَبَّس بالتشديد ومعناه التكثير . والباء في " بالباطل " للحال أي : ملتسباً بالباطل .

قوله : { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ } جملةٌ مستأنفة ، ولذلك لم يَنْتَصِبْ بإضمار أَنْ في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاج من البصريين ، والفراء من الكوفيين فيه النصبَ من حيث العربيةُ ، فتسقطُ النون ، فينتصِبُ على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار أَنْ عند البصريين ، وقد مَنَع ذلك أبو علي الفارسي وأَنْكره ، وقال : " الاستفهامُ واقعٌ على اللَّبْسِ فَحَسْب ، وأما " تكتمُون " فخبرٌ حتم لا يجوز فيه إلا الرفعُ " ، يعني أنه ليس معطوفاً على

" تَلْبِسون " بل هو استئناف ، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق . ونقل أبو محمد بن عطية عن أبي عليّ أنه قال أيضاً : " الصرف ههنا يَقْبُح ، وكذلك إضمارُ " أَنْ " ، لأن " يكتمون " معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه ، وإنما استَفْهم عن السبب في اللبس ، واللَّبْس موجب ، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم : " لا تأكلِ السمكَ وتَشْرَب اللبن " وبمنزلةِ قولك : " أتقومُ فأقومَ " والعطفُ على الموجب المقرَّر قبيح متى نُصِب ، إلا في ضرورةِ شعر كما رُوِي :

1328 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأَلْحَقُ بالحجازِ فاستريحا

وقد قال سيبويه في قولك : " أَسِرْتَ حتى تَدخُلَها ؟ " لا يجوز إلا النصبُ في " تدخل " لأن السير مُسْتَفْهَمٌ عنه غيرُ موجَبٍ " ، وإذا قلنا : " أيُّهم سار حتى يدخُلها ؟ رَفَعْتَ لأن السيرَ موجب والاستفهامُ إنما وقع عن غيره " .

قال الشيخ : وظاهرُ هذا النقلِ عنه معارضتُه لِما نُقل عنه قبله ، لأنَّ ما قبلَه فيه أنَّ الاستفهامَ وَقَعَ عن اللَّبْسِ فحسب ، وأمَّا " يكتُمون " فخبر حتم لا يجوزُ فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أنَّ " يكتمون " معطوفٌ على موجبٍ مقدَّرٍ وليس بمستفهم عنه ، فيدُلُّ العطف على اشتراكهما في الاستفهامِ عن سبب اللَّبْس وسبب الكتم الموجبين ، وفَرْقٌ بين هذا المعنى وبين أن يكون " يكتمون " إخباراً مَحْضاً لم يشترك مع اللَّبْس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو عليّ من أنَّ الاستفهامَ إذا تَضَمَّن وقوعَ الفعلِ لا ينتصب الفعلُ بإضمار " أَنْ " في جوابه تبعه في ذلك جمال الدين بن مالك ، فقال في " تسهيلِه " : " أو لاستفهامٍ لا يتضمَّنُ وقوعَ الفعل " فإنْ تضمَّن وقوعَ الفعل امتنع النصبُ عندَه نحو : " لِمَ ضربْتَ زيداً فيجاريك " لأنَّ الضربَ قد وقع .

ولم يَشْتَرط غيرُهما من النحويين ذلك ، بل إذا تعذَّر سَبْكُ المصدرِ مما قبله : إمَّا لعدم تقدُّمِ فعلٍ ، وإمَّا لاستحالةِ سَبْكِ المصدرِ المرادِ به الاستقبالُ لأجلِ مُضِيِّ الفعل فإنما يُقَدَّر مصدرٌ مُقَدَّرٌ استقبالُه بما يَدُلُّ عليه المعنى ، فإذا قلت : لِمَ ضربْتَ زيداً [ فأضربك ] فالتقديرُ : ليكنْ منك إعلامٌ بضرب زيد فمجازاةٌ منا . وأمَّا ما رَدَّ به أبو علي الفارسي على الزجاج والفراء فليس بلازم ، لأنه قد منع أن يُراد بالفعل المضيُّ ، إذ ليس نصاً في ذلك ، إذ قد يمكن الاستقبال لتحقُّق صدورهِ لا سيَّما على الشخصِ الذي صَدَرَ منه أمثالُ ذلك ، وعلى تقدير تحقُّق المُضِيّ فلا يَلْزَمُ الزجاجَ أيضاً ، لأنه كما تقدَّم : إذا لم يمكن سبك مصدرٌ مستقبلٌ من الجملةِ الاستفهاميةِ سَبَكْناه مِنْ لازِمها ، ويَدُلُّ على إلغاء هذا الشرطِ والتأويلِ بما ذكرناه ما حكاه ابن كيسان مِنْ نصب المضارع بعد فعلٍ ماض محققِ الوقوعِ مستفهم عنه نحو : أين ذهب زيد فنتبعَه ؟ ومن أبوك فنكرمَه ؟ وكم مالُك فنعرفَه ؟ كلُّ ذلك متأوَّلٌ بما ذكرت من انسباك المصدرِ المستقبلِ من لازمِ الجملِ المتقدمة فإنَّ التقدير : ليكنْ منك إعلامٌ بذهابِ زيد فاتِّباعٌ منا ، وليكن منك إعلامٌ بأبيك فإكرامُ له منا ، وليكن منك تعريفٌ بقَدْرِ مالك فمعرفةُ منا " وهذا البحث الطويل على تقدير شيء لم يقع ، فإنه لم يُقرأ لا في الشاذ ولا في غيرِه إلا ثابت النون ، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث تنقيحاً للذهن .

ووراءَ هذا قراءةٌ مُشْكلة رَوَوها عن عبيد بن عمير وهي " لِمَ تَلْبِسوا وتكتُموا " بحذف النون من الفعلين ، وهي قراءةٌ لا تبعد عن الغلط البَحْت ، كأنه تَوَهَّمَ أنَّ " لِمَ " هي " لم " الجازمة فَجَزَمَ بها ، وقد نقل المفسرون عن بعض النحاة هنا أنهم يَجْزِمون ب " لِمَ " حملاً على لَمْ ، نقل ذلك السجاوندي وغيرُه عنهم ، ولا أظنُّ نحوياً يقول ذلك البتة ، كيف يقول في جارٍ ومجرورٍ إنه يجزم ! ! هذا ما لا يتَفَوَّه به البتة ولا يَطيق سماعَه ، فإن يَثْبُتْ هذا قراءةً ولا بد فليكُنْ مِمَّا حُذِفَ فيه نون الرفع تخفيفاً حيث لا مقتضى لحَذْفِها ، ومن ذلك قِراءةُ بعضهم : { قَالُواْ ساحران تَظَّاهَرَا }

[ القصص : 48 ] بتشديدِ الظاءِ ، والأصلُ : تتظاهران ، فَأَدْغَمَ التاءَ في الظاء وحَذَفَ النون تخفيفاً ، وفي الحديث : " والذي نفسي بيده لا تَدخُلوا الجنةَ حتى تؤمنوا ، ولا تُؤمِنوا حتى تَحابُّوا " يريد عليه السلام : لاتدخلون ولا تؤمنون ، لاستحالة النهي معنى ، وقال الشاعر :

أَبِيتُ أَسْرِي وتبيتي تَدْلُكِي *** وجَهكِ بالعنبرِ والمِسْكِ الذَّكي

يريد : تبيتين وتدلكين ، ومثلُه قولُ أبي طالب :

فإن يَكُ قومٌ سَرَّهُمْ ما صَنَعْتُمُ *** سَتَحْتَلِبُوها لاقِحاً غيرَ باهِلِ

يريد : فستحتلبونها ، ولا يجوزُ أن يُتَوَهَّم في هذا البيت أن يكونَ حَذَفَ النونَ لأجلِ جواب الشرط ، لأنَّ الفاءَ مرادةٌ وجوباً ، لعدمِ صلاحية

" ستحتلبوهَا " جواباً لاقترانِهِ بحرف التنفيس .

قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جملةٌ حالية ، ومتعلَّقُ العلمِ محذوف : إمَّا اقتصاراً وإما اختصاراً ، أي : وأنتم تعلمونَ الحقَّ من الباطل أو نبوَّة محمدٍ ونحوُ ذلك .