وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله [ ص ]
- وهذا القرآن يتنزل عليهم غضا ؛ وتشربه نفوسهم ؛ وتعيش به وله ؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته ؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبيا رسولا - غير نوح وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين ( من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ) . . والتعقيبات على هذا الموكب : ( وكذلك نجزي المحسنين ) . ( وكلا فضلنا على العالمين ) . . ( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) . . وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله ، وهدايته إلى الطريق المستقيم .
وذكر هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد للتقريرات التي تليه :
يخبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، بعد أن طَعَن في السن ، وأيس هو وامرأته " سارة " من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك ، وقالت : { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود : 72 ، 73 ] ، وبشروه{[10946]} مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلا وعَقِبا ، كما قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 112 ] ، وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة ، وقال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] أي : ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما ، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده ، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب ، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يَعْقب لضعفه ، وقعت البشارة به وبولده باسم " يعقوب " ، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكان هذا مجازاة لإبراهيم ، عليه السلام ، حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله ، عَزَّ وجل ، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال [ تعالى ]{[10947]} { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [ مريم : 49 ] ، وقال هاهنا : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا }
وقوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبله ، هديناه كما هديناه ، ووهبنا له ذرية صالحة ، وكل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح ، عليه السلام ، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذرية نوح ، وكذلك الخليل إبراهيم ، عليه السلام ، لم يبعث الله ، عَزَّ وجل ، بعده نبيا إلا من ذريته ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } الآية [ العنكبوت : 27 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ الحديد : 26 ] ، وقال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } أي : وهدينا من ذريته { دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } الآية ، وعود الضمير إلى " نوح " ؛ لأنه أقرب المذكورين ، ظاهر . وهو اختيار ابن جرير ، ولا إشكال عليه . وعوده إلى " إبراهيم " ؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن ، لكن يشكل على ذلك " لوط " ، فإنه ليس من ذرية " إبراهيم " ، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر ؛ اللهم إلا أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليبًا ، كما في قوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 133 ] ، فإسماعيل عمه ، ودخل في آبائه تغليبا .
[ وكما قال في قوله : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ } [ الحجر : 30 ، 31 ] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود ، وذم على المخالفة ؛ لأنه كان قد تشبه بهم ، فعومل معاملتهم ، ودخل معهم تغليبا ، وكان من الجن وطبيعتهم النار والملائكة من النور ]{[10948]}
وفي ذكر " عيسى " ، عليه السلام ، في ذرية " إبراهيم " أو " نوح " ، على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال ؛ لأن " عيسى " ، عليه السلام ، إنما ينسب إلى " إبراهيم " ، عليه السلام ، بأمه " مريم " عليها السلام ، فإنه لا أب له .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا سهل بن يحيى العسكري ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا علي ابن عابس{[10949]} عن عبد الله بن عطاء المكي ، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن يَعْمُر فقال : بَلَغَني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، تجده في كتاب الله ، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال : أليس تقرأ سورة الأنعام : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } حتى بلغ { وَيَحْيَى وَعِيسَى } ؟ قال : بلى ، قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم ، وليس له أب ؟ قال : صدقت .
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته ، أو وقف على ذريته أو وهبهم ، دخل أولاد البنات فيهم ، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر العربي :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأجانب{[10950]}
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيه أيضا ، لما ثبت في صحيح البخاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " {[10951]} فسماه ابنا ، فدل على دخوله في الأبناء .
وأمّا إلياس فهو المعروف في كتب الإسرائيليّين باسم إيليا ، ويسمّى في بلاد العرب باسم إلياس أو ( مَار إلياس ) وهو إلياس التشبي . وذكر المفسّرون أنّه إلياس بن فنحاص بن إلعاز ، أو ابن هارون أخي موسى فيكون من سبط لاوي . كان موجوداً في زمن الملك ( آخاب ) ملك إسرائيل في حدود سنة ثمان عشرة وتسعمائة قبل المسيح . وهو إسرائيلي من سكان ( جِلْعاد ) بكسر الجيم وسكون اللاّم صقع جبلي في شرق الأرْدُن ومنه بَعْلبك . وكان إلياس من سبط روبين أو من سبط جَاد . وهذان السّبطان هما سكّان صقع جِلْعاد ، ويقال لإلياس في كتب اليهود التشبي ، وقد أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل لمّا عبدوا الأوثان في زمن الملك ( آخاب ) وعبدوا ( بَعْل ) صنم الكنعانيّين . وقد وعظهم إلياس وله أخبار معهم . أمره الله أن يجعل اليسع خليفة له في النّبوءة ، ثمّ رفع الله إلياس في عاصفة إلى السّماء فلم يُر له أثر بعدُ ، وخلفه اليسع في النّبوءة في زمن الملك ( تهورام ) بن ( آخاب ) ملك إسرائيل .
وقوله : { كلّ من الصّالحين } اعتراض . والتّنوين في كلّ عوض عن المضاف إليه ، أي كلّ هؤلاء المعدودين وهو يشمل جميع المذكورين إسحَاقَ ومن بعده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.