والفوج الثالث من أفواج الآيات :
( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر ، والنجوم مسخرات بأمره . إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) . .
ومن مظاهر التدبير في الخلق ، وظواهر النعمة على البشر في آن : الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم . فكلها مما يلبي حاجة الإنسان في الأرض . وهي لم تخلق له ولكنها مسخرة لمنفعته . فظاهرة الليل والنهار ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري . ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل أو ليلا بلا نهار ، ثم يتصور مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون .
كذلك الشمس والقمر . وعلاقتهما بالحياة على الكوكب الأرضي ، وعلاقة الحياة بهما في أصلها وفي نموها ، ( والنجوم مسخرات بأمره )للإنسان ولغير الإنسان مما يعلم الله . .
وكل أولئك طرف من حكمة التدبير ، وتناسق النواميس في الكون كله ، يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل وتدرك ما وراء الظواهر من سنن وقوانين : ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) .
ثم قال{[16350]} تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
ينبه تعالى عباده على آياته العظام ، ومننه الجسام ، في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان ، والشمس والقمر يدوران ، والنجوم الثوابت والسيارات ، في أرجاء السموات نورا وضياء لمهتدين بها في الظلمات ، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه ، يسير بحركة مُقدرة ، لا يزيد عليها ولا ينقص منها ، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسييره ، كما قال : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] ؛ ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : لدلالات على قدرته الباهرة وسلطانه العظيم ، لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه .
وقوله تعالى : { وسخر لكم الليل والنهار } الآية ، قرأ الجمهور بإعمال { سخر } في جميع ما ذكر ونصب «مسخراتٍ » على الحال المؤكدة ، كما قال تعالى : { وهو الحق مصدقاً }{[7265]} [ فاطر : 31 ] وكما قال الشاعر : [ البسيط ]
أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي{[7266]} . . . ونحو هذا وقرأ ابن عامر «والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ » برفع هذا كله ، وقرأ حفص عن عاصم «والنجومُ مسخراتٌ بأمره » بالرفع ونصب ما قبل ذلك ، والمعنى في هذه الآية أن هذه المخلوقات مسخرات على رتبة قد استمر بها انتفاع البشر من السكون بالليل والسعي في المعايش وغير ذلك بالنهار ، وأما منافع الشمس والقمر فأكثر من أن تحصى وأما النجوم فهدايات ، وبهذا الوجه عدت من جملة النعم على بني آدم ، ومن النعمة بها ضياؤها أحياناً ، قال الزجاج : وعلم عدد السنين والحساب بها .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة بن مصرف «والرياح مسخرات » في موضع «النجوم » ، ثم قال { إن في ذلك لآيات } لعظم الأمر لأن كل واحد مما ذكر آية في نفسه لا يشترك مع الآخر ، وقال في الآية قبل الآية لأن شيئاً واحداً يعم تلك الأربعة وهو النبات ، وكذلك في ذكر { ما ذرأ } [ النحل : 13 ] ليسارته بالإضافة ، وأيضاً ف «آية » بمعنى «آيات » واحد يراد به الجمع .
آيات أخرى على دقيق صنع الله تعالى وعلمه ممزوجة بامتنان .
وتقدم ما يفسّر هذه الآية في صدر سورة يونس . وتسخير هذه الأشياء تقدم عند قوله تعالى : { والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره ألا له الخلق والأمر } في أوائل سورة الأعراف ( 54 ) وفي أوائل سورة الرعد وفي سورة إبراهيم .
وهذا انتقال للاستدلال بإتقان الصنع على وحدانية الصانع وعلمه ، وإدماج بين الاستدلال والامتنان . ونيطت الدلالات بوصف العقل لأن أصل العقل كاف في الاستدلال بها على الوحدانية والقدرة ، إذ هي دلائل بيّنة واضحة حاصلة بالمشاهدة كل يوم وليلة .
وتقدم وجه إقحام لفظ ( قوم ) آنفاً ، وأن الجملة تذييل .
وقرأ الجمهور جميع هذه الأسماء منصوبة على المفعولية لِفعل سخر . وقرأ ابن عامر { والشمسُ والقمرُ والنجومُ } بالرفع على الابتداء ورفع { مسخرات } على أنه خبر عنها . فنكتة اختلاف الإعراب الإشارة إلى الفرق بين التسخيرين . وقرأ حفص برفع { النجومُ } و { مسخراتٌ } . ونكتة اختلاف الأسلوب الفرق بين التسخيرين من حيث إن الأول واضح والآخر خفيّ لقلّة من يرقب حركات النجوم .
والمراد بأمره أمر التكوين للنظام الشمسي المعروف .
وقد أبدى الفخر في كتاب « درّة التنزيل » وجهاً للفرق بين إفراد آية في المرة الأولى والثالثة وبين جمع آيات في المرة الثانية : بأن ما ذكر أول وثالثاً يرجع إلى ما نجم من الأرض ، فجميعه آية واحدة تابعة لخلق الأرض وما تحتويه ( أي وهو كله ذو حالة واحدة وهي حالة النبات في الأرض في الأول وحالة واحدة وهي حالة الذرء في التناسل في الحيوان في الآية الثالثة ) وأما ما ذكر في المرة الثانية فإنه راجع إلى اختلاف أحوال الشمس والقمر والكواكب ، وفي كل واحد منها نظام يخصّه ودلائل تخالف دلائل غيره ، فكان ما ذكر في ذلك مجموع آيات ( أي لأن بعضها أعراض كالليل والنهار وبعضها أجرام لها أنظمة مختلفة ودلالات متعددة ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات} يقول: فيما سخر لكم في هذه الآيات لعبرة، {لقوم يعقلون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومن نِعَمه عليكم أيها الناس مع التي ذكرها قبل أن سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان عليكم، هذا لتصرفكم في معاشكم وهذا لسكنكم فيه "والشّمْسَ والقَمَرَ "لمعرفة أوقات أزمنتكم وشهوركم وسنينكم وصلاح معايشكم. "والنّجُومُ مُسَخّراتٌ" لكم بأمر الله تجري في فلكها لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر.
"إنّ فِي ذلكَ لآيات لِقَوْمٍ يَعْقَلُونَ" يقول تعالى ذكره: إن في تسخير الله ذلك على ما سخره لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله ويفهمون عنه تنبيهه إياهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم} وما ذكر، ووجه تسخير هذه الأشياء لنا، وهو أن الله خلق هذه الأشياء، وجعل فيها منافع للخلق، تصل تلك المنافع إلى الخلق، شئن أم أبين، أجبن، أم كرهن. جعل في النهار معاشا للخلق وتقلبا فيه يتعيشون، ويتقلبون، وجعل الليل راحة لهم وسكنا، ينتفعون بها ما شاءا، أم أبيا، وكذلك ما جعل في الشمس والقمر والنجوم من المنافع في إنضاج الفواكه والثمرات وإدراك الزروع وبلوغها ومعرفة الحساب والسنين والأشهر ومعرفة الطرق والسلوك بها وغير ذلك من المنافع ما ليس في وسع الخلق إدراكه؛ ينتفع الخلائق بما جعل فيها من المنافع، شاءت هذه الأشياء أم أبت. فذلك وجه تسخيرها لنا. ويحتمل ما ذكر من تسخير هذه الأشياء لنا ما جعل في وسعنا استعمال هذه الأشياء والانتفاع بها والحيل التي بها نقدر على استعمالها في حوائجنا. ويحتمل تسخيرها لنا ما ننتفع بهن؛ شئن، أم أبين بالطباع، والله أعلم.
{مسخرات بأمره} يحتمل وجهين: يحتمل أي بأمره تنفع الخلائق، ويحتمل {بأمره} أي كونها في الأصل هكذا بأن تنفع الخلق، والله أعلم.
{إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} قال في الآية الأولى: {لقوم يتفكرون} جعل الله عز وجل التفكر سبيلا للعقول إلى إدراك الغيبة بالحواس الظاهرة؛ إذ لا سبيل للعقل إلى إدراك ما غاب عنه إلا بالحواس الظاهرة، فجعل الحواس الظاهرة سبيلا للعقول إلى إدراك المغيب عنها. ذكر عز وجل في الآية الأولى: {لقوم يتفكرون} وذكر في الآية الثالثة: {لقوم يذكرون} (النحل: 13) وفي الرابعة: {ولعلكم تشكرون} (الآية: 14)، والله أعلم كرره على مراتب، لأنه بالتفكر فيها يعقل، ويعلم، ثم بعد العلم والعقل والفهم يتذكر. وإذا تذكر عند ذلك شكر نعمه. ثم قوله، والله أعلم: {لقوم يتفكرون} وقوله {لقوم يعقلون} ما ذكر فيهما دلالة وحدانية الله تعالى ودلالة تدبيره وعلمه وحكمته ودلالة بعث الخلائق ودلالة قدرته وسلطانه؛ لأن الليل والنهار يأتيان الجبابرة والفراعنة، ويذهبان بعمرهم، ويفنيانه، شاءوا أم أبوا. فذلك آية سلطانه وقدرته ليعلم أن له السلطان والقدرة لا لهم. وفيهما دلالة البعث لأنه إذا أتى هذا ذهب الآخر، حتى لا يبقى له أثر. ثم ينشئ مثله بعد أن لم يبق من الأول شيء ولا أثر. فالذي قدر على إنشاء النهار أو الليل بعد ما ذهب أثره، وتلاشى، قادر على إنشاء الخلق بعدما يذهب أثرهم. وكذلك الشمس والقمر والنجوم وما ذكر؛ لما اتسق هذا كله على سنن واحد وتقدير واحد على غير تفاوت فيها ولا تفاضل وعلى غير تقديم ولا تأخير، جرى كله على سنن واحد وتقدير واحد وميزان واحد من غير تفاوت ولا اختلاف. دل أنه على تدبير واحد خرج ذلك لا على الجزاف، وأن مدبر ذلك كله واحد؛ إذ لو كان تدبير عدد لخرج مختلفا متفاوتا. فدل أنه تدبير واحد لا عدد... وجرى كذلك لا بنفسه، وأنه على حكمة وعلم جرى كذلك. فيدل على لزوم الرسالة والعبادة له، والله أعلم بتأويل قوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... معنى تسخيرها للناس: تصييرها نافعة لهم، حيث يسكنون بالليل، ويبتغون من فضله بالنهار، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، ويهتدون بالنجوم. فكأنه قيل: ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره. ويجوز أن يكون المعنى: أنه سخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر، بمعنى تسخير، من قولك: سخره الله مسخراً، كقولك: سرحه مسرحاً، كأنه قيل: وسخرها لكم تسخيرات بأمره...
{إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فجمع الآية وذكر العقل؛ لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إن في ذلك لآيات} لعظم الأمر لأن كل واحد مما ذكر آية في نفسه لا يشترك مع الآخر، وقال في الآية قبل "آية "لأن شيئاً واحداً يعم تلك الأربعة وهو النبات، وكذلك في ذكر {ما ذرأ} [النحل: 13] ليسارته بالإضافة، وأيضاً ف «آية» بمعنى «آيات» واحد يراد به الجمع.
{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر} يعني إن كانت تلك الحوادث السفلية لأجل تعاقب الليل والنهار وحركات الشمس والقمر، فهذه الأشياء لا بد وأن يكون حدوثها بتخليق الله تعالى وتسخيره قطعا للتسلسل، ولما تم هذا الدليل في هذا المقام لا جرم ختم هذه الآية بقوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} يعني أن كل من كان عاقلا علم أن القول بالتسلسل باطل ولا بد من الانتهاء في آخر الأمر إلى الفاعل المختار القدير...
نحن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث النبات والحيوان لأجل تأثير الطباع والأفلاك والأنجم، وذلك لأن تأثير الطبائع والأفلاك والأنجم والشمس والقمر بالنسبة إلى الكل واحد، ثم نرى أنه إذا تولد العنب كان قشره على طبع وعجمه على طبع ولحمه على طبع ثالث وماؤه على طبع رابع، بل نقول: إنا نرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصفرة، والوجه الثاني من تلك الورقة في غاية الحمرة وتلك الورقة تكون في غاية الرقة واللطافة، ونعلم بالضرورة أن نسبة الأنجم والأفلاك إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة، نسبة واحدة، والطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلا واحدا، ألا ترى أنهم قالوا: شكل البسيط هو الكرة لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابها، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة، وأيضا إذا وضعنا الشمع فإذا استضاء خمسة أذرع من ذلك الشمع من أحد الجوانب، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب، لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب. إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة الرقيقة نسبة واحدة، وثبت أن الطبيعة المؤثرة متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابها، وثبت أن الأثر غير متشابه، لأن أحد جانبي تلك الورقة في غاية الصفرة. والوجه الثاني في غاية الحمرة، فهذا يفيد القطع بأن المؤثر في حصول هذه الصفات والألوان والأحوال ليس هو الطبيعة، بل المؤثر فيها هو الفاعل المختار الحكيم، وهو الله سبحانه وتعالى، وهذا هو المراد من قوله: {وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه}. واعلم أنه لما كان مدار هذه الحجة على أن المؤثر الموجب بالذات وبالطبيعة يجب أن يكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة، فلما دل الحس في هذه الأجسام النباتية على اختلاف صفاتها وتنافر أحوالها ظهر أن المؤثر فيها ليس واجبا بالذات بل فاعلا مختارا فهذا تمام تقرير هذه الدلائل وثبت أن ختم الآية الأولى بقوله: {لقوم يتفكرون} والآية الثانية بقوله: {لقوم يعقلون} والآية الثالثة بقوله: {لقوم يذكرون} هو الذي نبه على هذه الفوائد النفيسة والدلائل الظاهرة والحمد لله على ألطافه في الدين والدنيا.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار}...وليس المرادُ بتسخيرها لهم تمكينَهم من تصريفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى: {سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} ونظائرِه، بل هو تصريفُه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعُهم ومصالحُهم كأن ذلك تسخيرٌ لهم وتصرفٌ من قبلهم حسب إرادتِهم، وفي التعبير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماءٌ إلى ما في المسخَّرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدلالة على أن ذلك أمرٌ واحدٌ مستمر وإن تجددت آثارُه.
{والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ}... أي سائرُ النجومِ في حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوهما مسخراتٌ لله تعالى أو لما خُلقن له بإرادته ومشيئتِه، وحيث لم يكن عَودُ منافعِ النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من المَلَوَين والقمَرَين لم يُنسَبْ تسخيرُها إليهم بأداة الاختصاص بل ذُكر على وجه يفيد كونَها تحت ملكوتِه تعالى من غير دِلالةٍ على شيء آخرَ ولذلك عُدِل عن الجملة الفعليةِ الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار.
{لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}...ويجوز أن يكون المرادُ لقوم يعقلون ذلك، فالمشار إليه حينئذ تعاجيبُ الدقائق المُودعةِ في العلويات المدلولِ عليها بالتسخير التي لا يتصدَّى لمعرفتها إلا المهَرةُ من أساطين علماءِ الحكمة، ولا ريب في أن احتياجَها إلى التفكر أكثرُ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والفوج الثالث من أفواج الآيات: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).. ومن مظاهر التدبير في الخلق، وظواهر النعمة على البشر في آن: الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. فكلها مما يلبي حاجة الإنسان في الأرض. وهي لم تخلق له ولكنها مسخرة لمنفعته. فظاهرة الليل والنهار ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري. ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل أو ليلا بلا نهار، ثم يتصور مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون. كذلك الشمس والقمر. وعلاقتهما بالحياة على الكوكب الأرضي، وعلاقة الحياة بهما في أصلها وفي نموها، (والنجوم مسخرات بأمره) للإنسان ولغير الإنسان مما يعلم الله.. وكل أولئك طرف من حكمة التدبير، وتناسق النواميس في الكون كله، يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل وتدرك ما وراء الظواهر من سنن وقوانين: (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
ونعلم أن الليل والنهار آيتان واضحتان؛ والليل يناسبه القمر، والنهار تناسبه الشمس، وهم جميعاً متعلقون بفعل واحد، وهم نسق واحد، والتسخير يعني قهر مخلوق لمخلوق؛ ليؤدي كل مهمته. وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر؛ كل له مهمة، فالليل مهمته الراحة. قال الحق سبحانه: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} (سورة القصص 10) والنهار له مهمة أن تكد في الأرض لتبتغي رزقاً من الله وفضلاً، والشمس جعلها مصدراً للطاقة والدفء، وهي تعطيك دون أن تسأل، ولا تستطيع هي أيضاً أن تمتنع عن عطاء قدرة الله. وهي ليست ملكاً لأحد غير الله؛ بل هي من نظام الكون الذي لم يجعل الحق سبحانه لأحد قدرة عليه، حتى لا يتحكم أحد في أحد، وكذلك القمر جعل له الحق مهمة أخرى. وإياك أن تتوهم أن هناك مهمة تعارض مهمة أخرى، بل هي مهام متكاملة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فكل من الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم له نوع وأثر خاص في حياة الإِنسان، وما أجمل عبارة (تسخير الموجودات للإنسان بأمر اللّه) فبالإضافة لما تظهره من شرف ورفعة شخصية الإنسان بنظر الإِسلام والقرآن، وإِعطائه من الجلال ما يجعله مؤهلا لمقام خليفة اللّه، فهي تذكرة للإِنسان بأن لا يغفل عمّا أنعم اللّه عليه، وباعثة فيه شعور لزوم الشكر للّه تعالى من خلال ما يلمس ويرى، عسى أن يتقرب لخالقه فينال حسن مآبه. ولهذا يقول تعالى في ذيل الآية: (إِنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون).