قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين :
الأول : أن يقول : هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب ، وأسباب تلك الحركات : إما ذواتها ، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها ، والأول باطل من وجهين :
الأول : أنَّ الأجسام متماثلةٌ ، فلو كان الجسم علَّة لصفة ، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ ؛ وهو محالٌ .
والثاني : أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة ، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات ، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً ؛ وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته ، وما أفضى ثبوته إلى عدمه ، كان أصلاً باطلاً .
فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً ، فبقي أن يكون متحركاً لغيره ، وذلك الغير : إمَّا أن يكون سارياً فيه ، أو مبايناً عنه ، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام ؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها ، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً ، عاد التقسيم الأول فيه ، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً ، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً ، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية ؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض ؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً ، وجسمانيًّا ؛ وذلك هو الله - تعالى - .
فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية ، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [ أفلاكٍ أخرى ]{[19735]} ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ ؛ وهو محالٌ ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك ، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه ، وهذا هو المراد من قوله عز وجل : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } يعني : أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار ، وحركاتِ الشَّمس والقمر ، فهذه الأشياء لابدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره ؛ قطعاً للتسلسل .
ولمَّا تم هذا الدليل ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل ، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار .
والجواب الثاني عن ذلك السؤال : أنَّ تأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب ؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد ، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب : قشره على طبع ، وعجمه على طبعٍ ، ولحمه على طبع ثالثٍ ، وماؤه على طبع رابع ، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة ، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة ، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم ، والأفلاكِ ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة ، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً ؛ ألا ترى أنهم قالوا : شكل البسيط هو الكرة ؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً ، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة ، وأيضاً إذا أضأنا الشمع ، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب ، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب ؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب ، وإذا ثبت هذا ، فنسبة الشمس ، والقمر ، والأنجم ، والأفلاك ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة ، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً ، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفرة ، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة ، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات ، والألوان ، والأحوال - ليس هو الطبيعة ؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم ، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } .
ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها ، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى- .
فإن قيل : لا يقال : سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً .
فالجواب : أنَّ المعنى : أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه .
فإن قيل : التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر ، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر ؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار ، وفي الجمادات ؛ كالشمس والقمر ؟ .
الأول : أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد ، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع ؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ .
والجواب الثاني : لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة ؛ لأنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر ، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب ، فكانت هذه الحركة قسرية ؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير .
فإن قيل : إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس ؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس ، فالجواب : حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [ حدوث ]{[19736]} حركةِ الشمس ؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ ، فَإنَّها علة لحدوث السنة ، لا لحدوث اليومِ .
فإن قيل : المؤثر في التسخير هو القدرة ، لا الأمر ؛ فكيف قال الله : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } ؟ .
فالجواب : هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ ، أم لا ، وأكثر المسلمين على أنَّها جمادات ؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [ والتقدير ]{[19737]} ، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ ؛ قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] .
ومنهم من قال : إنها ليست بجماداتٍ ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.