اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (12)

قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين :

الأول : أن يقول : هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب ، وأسباب تلك الحركات : إما ذواتها ، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها ، والأول باطل من وجهين :

الأول : أنَّ الأجسام متماثلةٌ ، فلو كان الجسم علَّة لصفة ، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ ؛ وهو محالٌ .

والثاني : أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة ، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات ، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً ؛ وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته ، وما أفضى ثبوته إلى عدمه ، كان أصلاً باطلاً .

فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً ، فبقي أن يكون متحركاً لغيره ، وذلك الغير : إمَّا أن يكون سارياً فيه ، أو مبايناً عنه ، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام ؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها ، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً ، عاد التقسيم الأول فيه ، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً ، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً ، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية ؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض ؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً ، وجسمانيًّا ؛ وذلك هو الله - تعالى - .

فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية ، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [ أفلاكٍ أخرى ]{[19735]} ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ ؛ وهو محالٌ ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك ، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه ، وهذا هو المراد من قوله عز وجل : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } يعني : أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار ، وحركاتِ الشَّمس والقمر ، فهذه الأشياء لابدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره ؛ قطعاً للتسلسل .

ولمَّا تم هذا الدليل ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل ، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار .

والجواب الثاني عن ذلك السؤال : أنَّ تأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب ؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد ، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب : قشره على طبع ، وعجمه على طبعٍ ، ولحمه على طبع ثالثٍ ، وماؤه على طبع رابع ، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة ، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة ، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم ، والأفلاكِ ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة ، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً ؛ ألا ترى أنهم قالوا : شكل البسيط هو الكرة ؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً ، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة ، وأيضاً إذا أضأنا الشمع ، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب ، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب ؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب ، وإذا ثبت هذا ، فنسبة الشمس ، والقمر ، والأنجم ، والأفلاك ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة ، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة ، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً ، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفرة ، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة ، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات ، والألوان ، والأحوال - ليس هو الطبيعة ؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم ، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } .

ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها ، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى- .

فإن قيل : لا يقال : سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً .

فالجواب : أنَّ المعنى : أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه .

فإن قيل : التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر ، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر ؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار ، وفي الجمادات ؛ كالشمس والقمر ؟ .

فالجواب من وجهين :

الأول : أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد ، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع ؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ .

والجواب الثاني : لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة ؛ لأنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر ، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب ، فكانت هذه الحركة قسرية ؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير .

فإن قيل : إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس ؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس ، فالجواب : حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [ حدوث ]{[19736]} حركةِ الشمس ؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ ، فَإنَّها علة لحدوث السنة ، لا لحدوث اليومِ .

فإن قيل : المؤثر في التسخير هو القدرة ، لا الأمر ؛ فكيف قال الله : { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } ؟ .

فالجواب : هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ ، أم لا ، وأكثر المسلمين على أنَّها جمادات ؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [ والتقدير ]{[19737]} ، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ ؛ قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] .

ومنهم من قال : إنها ليست بجماداتٍ ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ .


[19735]:في أ: أفلك أخر.
[19736]:زيادة من أ.
[19737]:في ب: والتنصير.