{ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر } يتعاقبان خلفة لمنامكم واستراحتكم وسعيكم في مصالحكم من الأسامة وتعهد حال الزرع ونحو ذلك { والشمس والقمر } يدأبان في سيرهما وإنارتهما إصالة وخلافة وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزروع وإنضاج الثمرات وتلوينها وغير ذلك من التأثيرات المترتبة عليهما بإذن الله تعالى حسبما يقوله السلف في الأسباب والمسببات ، وليس المراد بتسخير ذلك للمخاطبين تمكينهم من التصرف به كيف شاؤا كما في قوله تعالى : { سبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا } [ الزخرف : 13 ] ونحوه بل تصريفه سبحانه لذلك حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم كأن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم قاله بعض المحققين .
وقال آخرون : إن أصل التسخير السوق قهراً ولا يصح إرادة ذلك لأن القهر والغلبة مما لا يعقل فيما لا شعور له من الجمادات كالشمس والقمر وعدم تعقله في نحو الليل والنهار أظهر من ذلك فهو هنا مجاز عن الإعداد والتهيئة لما يراد من الانتفاع ، وفي ذلك إيماءً إلى ما في المسخر من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين .
وذكر الإمام في المراد من التسخير نحو ما ذكر أولاً ثم ذكر وجهاً آخر قال فيه : إنه لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب الهيئة وهو أنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق فالله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية فلذا ورد فيها لفظ التسخير ، وذكر أيضاً أن حدوث الليل والنهار ليس إلا بسبب حركة الفلك الأعظم دون حركة الشمس وأما حركتها فهي سبب لحدوث السنة ولذا لم يكن ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس اه ؛ ولا يعترض عليه بأن ما ذكره من قوله : إن حدوث الليل والنهار إلى آخره لا يتأتى في عرض تسعين لأن الليل والنهار لا يحصلان إلا بغروب الشمس وطلوعها وهي هناك لا تغرب ولا تطلع بحركة الفلك الأعظم بل بحركتها الخاصة ولذا كانت السنة يوماً وليلة لما أن ذلك العرض غير مسكون وكذا ما يقرب منه فلا يدخل في حيز الامتنان . نعم في كلامه عند المتمسكين بأذيال الشريعة غير ذلك فلينظر ؛ وفي كون الشمس والقمر مما لا شعور لهما خلاف بين العلماء فذهب البعض إلى أنهما عالمان وهو الذي تقتضيه الظواهر وإليه ذهب الصوفية والفلاسفة ، ولم أشعر بوقوع خلاف في أن الليل والنهار مما لا شعور لهما ، نعم رأيت في البهجة القادرية عن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره العزيز أن الشهر أو الأسبوع يأتيه في صورة شخص فيخبره بما يحدث فيه من الحوادث ، ولعل هذا على نحو ظهور القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب وقوله لمن كان يحفظه .
«أنا الذي أسهرتك في الدياجي وأظمأتك في الهواجر » وظهور الموت في صورة كبش أملح وذبحه بين الجنة والنار يوم القيامة كما جاء في الخبر ، وعليك بالإيمان بما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وأنت في الإيمان بغيره بالخيار ، وإيثار صيغة الماضي قيل للدلالة على أن ذلك التسخير أمر واحد مستمر وإن تجددت آثاره { والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ } مبتدأ وخبر أي وسائر النجوم البيبانية وغيرها في حركاتها وأوضاعها المتبدلة وغير المتبدلة وسائر أحوالها مسخرات لما خلقت له بخلقه تعالى وتدبيره الجاري على وفق مشيئته فالأمر واحد الأمور ، وجوز أن يكون واحد الأوامر ويراد منه الأمر التكويني عند من لا يقول بإدراك النجوم ، والمعنى أنها مسخرة لما خلقت له بقدرته تعالى وإيجاده ، قيل : وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الجديدين والنيرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل ذكر على وجه يفيد أنها تحت ملكوته عز وجل من غير دلالة على شيء آخر ، ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار ، وقرأ ابن عامر برفع { الشمس والقمر } أيضاً فيكون المبتدأ الشمس والبواقي معطوفة عليه و { مسخرات } خبر عن الجميع ، ولا يتأتى على هذه القراءة ما في وجه عدم نسبة تسخير ذلك إليهم بأداة الاختصاص كما لا يخفى ، واعتبار عدم كون ظهور المنافع بمثابة السابق بالنظر إلى المجموع كما ترى . ومن الناس من قال في ذلك : إن المراد بتسخير الليل والنهار لهم نفعنم بهما من حيث أنهما وقتا سعي في المصالح واستراحة ومن حيث ظهور ما يترتب عليه منافعهم مما نيط به صلاح المكونات التي من جملتها ما فصل وأجمل مثلاً كالشمس والقمر فيهما ، ويؤل ذلك بالآخرة إلى النفع بذلك وهو معنى تسخيره لهم ، فيكون تسخير الليل والنهار لهم متضمناً لتسخير ذلك لهم فحيث أفاده الكلام أولاً استغنى عن التصريح به ثانياً وصرح بما هو أعظم شأناً منه وهو أن تلك الأمور لم تزل ولا تزال مقهورة تحت قدرته منقادة لإرادته ومشيئته سواء كنتم أو لم تكونوا فليتدبر ، وقرأ الجمهور { والنجوم والجبال * مسخرات } بالنصب فيهما ، وكذا فيما تقدم ، وخرج ذلك على أن { النجوم } مفعول أول لفعل محذوف ينبىء عنه الفعل المذكور و { مسخرات } مفعول ثان له ، أي وجعل النجوم مسخرات ، وجوز جعل جعل بمعنى خلق المتعدي لمفعول واحد فمسخرات حال ، واستظهر أبو حيان كون { النجوم } معطوفاً على ما قبله بلا إضمار و { مسخرات } حينئذٍ قيل حال من الجميع على أن التسخير مجاز عن النفع أي أنفعكم بها حال كونها مسخرات لما خلقت له مما هو طريق لنفعكم وإلا فالحمل على الظاهر دال على أن التسخير في حال التسخير بأمره ولا كذلك لتأخر الأول ، وقيل : لذلك أيضاً : إن المراد مستمرة على التسخير بأمره الإيجادي لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار ، وجوز بعض أجلة المعاصرين أن يكون حالاً موكدة بتقدير { بِأَمْرِهِ } متعلقاً { *بسخر } والكلام من باب التنازع ، وقبوله مفوض إليك ، وقيل : هو مصدر ميمي كمسرح منصوب على أنه مفعول مطلق لسخر المذكور أولاً وسخرها مسخرات على منوال ضربته ضربات ، وجمع إشارة إلى اختلاف الأنواع ، وفي إفادة تسخير ما ذكر إيذان بالجواب عما عسى يقال : إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك أن سلم فلا ريب في أنها ممكنة الذات والصفا واقعة على بعض الوجوه مع احتمال غيره ترجيح بلا مرجح مختار لما أن الإيجاب ينافي الترجيح واجب الوجود دفعاً للدور أو التسلسل كذا قاله بعض الأجلة ، واعترضه المولى العمادي بأنه مبني على حسبان ما ذكر أدلة الصانع تعالى وقدرته واختياره ، وليس الأمر كذلك فإنه مما لا ينازع فيه الخصم ولا يتلعثم في قبوله قال تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ * السموات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ العنكبوت : 61 ] وقال سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله } [ العنكبوت : 63 ] الآية وإنما ذلك أدلة التوحيد من حيث أن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شيء في شيء فضلاً أن يشاركه الجماد في الألوهية اه ، وتعقب بأن كون ما ذكر أدلة التوحيد لا يأبى أن يكون فيه إيذان بالجواب عما عسى يقال وأي ضرر في أن يساق شيء لأمر ويؤذن بأمر آخر ، ولعمري لا أرى لهذا الاعتراض وجهاً بعد قول القائل في ذلك إيذان بالجواب عما عسى يقال الخ حيث لم يبت القول وأقحم عسى في البين لكن للقائل كلام يدل دلالة ظاهرة على أنه اعتبر الأدلة المذكورة أدلة على وجود الصانع عز شأنه أيضاً وقد سبقه في ذلك الإمام .
{ إِنَّ في ذَلِكَ } أي التسخير المتعلق بما ذكر { لاَيَاتٍ } باهرة متكاثرة على ما يقتضيه المقام { لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير تأمل وتفكر كأنها لمزيد ظهورها مدركة ببداهة العقل بخلاف الآثار السفلية في ذلك كذا قالوا ، وهو ظاهر على تقدير كون الاستدلال على الوحدانية لا على الوجود أيضاً ، وأما إذا كان الاستدلال على ذلك ففي دعوى الظهور المذكور بحث لانجرار الكلام على ذلك إلى إبطال التسلسل فكيف تكون الدلالة ظاهرة غير محوجة إلى فكر . وأجيب عنه بأن الاستدلال بالدور أو التسلسل إنما هو بعد التفكر في بدء أمرها وما نشأ منه من اختلاف أحوالها فافهم .
وجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك والمشار إليه نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية الإدراك من أساطين علماء الحكمة وحينئذٍ قطع الآية بقوله سبحانه هنا : { يَعْقِلُونَ } للإشارة إلى احتياج ذلك إلى التفكر أكثر من غيره والأول أولى كما لا يخفى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.