ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة : " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد " . . إنه الله القهار الجبار . الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد .
والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد . وعذاب الله ووثاقه يفصلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة المنوعة في ثنايا القرآن كله ، ويجملهما هنا حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب البشر ووثاقهم . أو من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم . وذلك مقابل ما أسلف في السورة من طغيان الطغاة ممثلين في عاد وثمود وفرعون ، وإكثارهم من الفساد في الأرض ، مما يتضمن تعذيب الناس وربطهم بالقيود والأغلال . فها هو ذا ربك - أيها النبي وأيها المؤمن - يعذب ويوثق من كانوا يعذبون الناس ويوثقونهم . ولكن شتان بين عذاب وعذاب ، ووثاق ووثاق . . وهان ما يملكه الخلق من هذا الأمر ، وجل ما يفعله صاحب الخلق والأمر . فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون . فسيعذبون هم ويوثقون ، عذابا ووثاقا وراء التصورات والظنون !
و «يوثِق » بكسر الذال الثاء ، وعلى هذه القراءة ، فالضمير عائد في عذابه ووثاقه لله تعالى ، والمصدر مضاف إلى الفاعل ولذلك معنيان : أحدهما أن الله تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد ، والآخر أن عذابه من الشدة في حيز لم يعذب قط أحد بمثله في الدنيا{[11814]} ، ويحتمل أن يكون الضمير للكافر والمصدر مضاف إلى المفعول ، وقرأ الكسائي وابن سيرين وابن أبي إسحاق وسواد القاضي{[11815]} «يعذَّب » و «يوثَق » بفتح الذال والثاء ، ورويت كثيراً عن النبي صلى الله عليه وسلم{[11816]} ، فالضميران على هذا للكافر الذي هو بمنزلة جنسه كله والمصدر مضاف إلى المفعول ووضع عذاب موضع تعذيب كما قال : [ القرطبي ] : [ الوافر ]
وبعض عطائك المائة الرتاعا{[11817]} . . . ويحتمل أن يكون الضميران في هذه القراءة لله تعالى ، كأنه قال : لا يعذب أحد قط في الدنيا عذاب الله للكفار ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، وفي هذا التأويل تحامل ، وقرأ الخليل بن أحمد{[11818]} «وِثاقه » بكسر الواو .
وقرأ الجمهور { يعذِّب } بكسر الذال { ويوثق } بكسر الثاء على أن { أحدٌ } في الموضعين فاعل { يعذِب ، ويوثِق } . وأن عذابه من إضافة المصدر إلى مفعوله فضمير { عذابه } عائد إلى الإنسان في قوله : { يتذكر الإنسان } وهو مفعول مطلق مبيّن للنوع على معنى التشبيه البليغ ، أي عذاباً مثل عذابه ، وانتفاء المماثلة في الشدة ، أي يعذب عذاباً هو أشد عذاب يعذبه العصاة ، أي عذاباً لا نظير له في أصناف عذاب المعذّبين على معنى قوله تعالى : { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 115 ] والمراد في شدته .
وهذا بالنسبة لبني الإنسان ، وأما عذاب الشياطين فهو أشدُّ لأنهم أشد كفراً و { أحد } يستعمل في النفي لاستغراق جنس الإنسان فأحَدٌ في سياق النفي يعمّ كل أحد قال تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ للَّه } [ الانفطار : 19 ] فانحصر الأحد المعذِّب ( بكسر الذال ) في فرد وهو الله تعالى .
وقرأه الكسائي ويعقوب بفتح ذال { يعذَّب } وفتح ثاء { يوثق } مبنيين للنائب . وعن أبي قلابة قال : « حدثني من أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ { يعذَّب } و { يوثَق } بفتح الذال وفتح الثاء » . قال الطبري : وإسناده واهٍ وأقول أغنى عن تصحيح إسناده تواترُ القراءة به في بعض الروايات العشر وكلها متواتر .
والمعنى : لا يعذَّب أحدٌ مثلَ عذاب مَا يعذَّب به ذلك الإنسان المتحسر يومئذ ، ولا يوثَق أحدٌ مثلَ وَثاقه ، ف { أحد } هنا بمنزلة « أحداً » في قوله تعالى : { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 115 ] .
والوَثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربْط ويجعل للأسير والمقُود إلى القتل . فيجعل لأهل النار وثاق يساقون به إلى النار قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم } [ غافر : 71 ، 72 ] الآية .
وانتصاب { وثاقه } كانتصاب { عذابه } على المفعولية المطلقة لمعنى التشبيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.