وهو يستند في تبليغ هذه الحقيقة على الحقيقة الكبرى الأولى : حقيقة التوحيد الذي لا شبهة فيه :
( وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم ) . .
فهو يعلن حقيقة التصور الاعتقادي التي قام عليها دين الله كله : المعجزات التي جاءهم بها لم يجىء بها من عند نفسه . فما له قدرة عليها وهو بشر . إنما جاءهم بها من عند الله . ودعوته تقوم ابتداء على تقوى الله وطاعة رسوله . . ثم يؤكد ربوبية الله له ولهم على السواء - فما هو برب وإنما هو عبد - وأن يتوجهوا بالعبادة إلى الرب ، فلا عبودية إلا لله . . ويختم قوله بالحقيقة الشاملة . . فتوحيد الرب وعبادته ، وطاعة الرسول والنظام الذي جاء به : ( هذا صراط مستقيم ) . . وما عداه عوج وانحراف . وما هو قطعا بالدين . .
{ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُم بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هََذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وبأني قد جئتكم بآية من ربكم ، وجئتكم مصدّقا لما بين يديّ من التوراة ، ولذلك نصب «مصدّقا » على الحال من جئتكم . والذي يدلّ على أنه نصب على قوله وجئتكم دون العطف على قوله : «وجيها » ، قوله : { لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ } ولو كان عطفا على قوله : «وجيها » ، لكان الكلام : ومصدّقا لما بين يديه من التوراة ، وليحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم . وإنما قيل : { ومُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ } لأن عيسى صلوات الله عليه كان مؤمنا بالتوراة مقرّا بها ، وأنها من عند الله ، وكذلك الأنبياء كلهم يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله ، وإن اختلف بعض شرائع أحكامهم لمخالفة الله بينهم في ذلك ، مع أن عيسى كان فيما بلغنا عاملاً بالتوراة ، لم يخالف شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشدّدا عليهم فيها . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : إن عيسى كان على شريعة موسى صلى الله عليه وسلم ، وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس ، فقال لبني إسرائيل : إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم ، وأضع عنكم من الاَصار .
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَمُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى ، وكان قد حرّم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب ، وأشياء من الطير والحيتان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { وَمُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } قال : كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى ، قال : وكان حرّم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى ، وحرّمت عليهم الشحوم ، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى ، وفي أشياء من السمك ، وفي أشياء من الطير مما لا صِيصِيَةَ له ، وفي أشياء حرّمها عليهم ، وشدّدها عليهم ، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل ، فكان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى ، صلوات الله عليه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { ولأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } قال : لحوم الإبل والشحوم لما بعث عيسى أحلها لهم ، وبعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرّقوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَمُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ } أي لما سبقني منها ، { ولأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } أي أخبركم أنه كان حراما عليكم ، فتركتموه ، ثم أحله لكم تخفيفا عنكم ، فتصيبون يسره وتخرجون من تِبَاعته .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } قال : كان حرّم عليهم أشياء ، فجاءهم عيسى ليحلّ لهم الذي حرّم عليهم ، يبتغي بذلك شكرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ } .
يعني بذلك : وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم ، تعلمون بها حقيقة ما أقول لكم .
كما : حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيج ، عن مجاهد : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ } قال : ما بيّن لهم عيسى من الأشياء كلها ، وما أعطاه ربه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ } : ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها .
ويعني بقوله : { مِنْ رَبّكُمْ } : من عند ربكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاتّقُوا اللّهَ وأطِيعُونِ إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } .
يعني بذلك : وجئتكم بآية من ربكم ، تعلمون بها يقينا صدقي فيما أقول ، فاتقوا الله يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به ، ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه ، وأطيعون فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ، ربي وربكم فاعبدوه ، فإنه بذلك أرسلني إليكم ، وبإحلال بعض ما كان محرّما عليكم في كتابكم ، وذلك هو الطريق القويم ، والهدى المتين الذي لا اعوجاج فيه .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { فاتّقُوا اللّهَ وَأطِيعُونِ إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ } تبريا من الذي يقولون فيه ، يعني ما يقول فيه النصارى واحتجاجا لربه عليهم ، فاعبدوه ، و{ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أي الذي هذا قد حملتكم عليه وجئتكم به .
واختلفت القراء في قراءة قوله : { إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فاعْبُدُوهُ } فقرأته عامة قرّاء الأمصار : { إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } بكسر ألف «إنّ » على ابتداء الخبر ، وقرأه بعضهم : «أنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ » بفتح ألف «أن » بتأويل : وجئتكم بآية من ربكم أن الله ربي وربكم ، على ردّ أن على الاَية ، والإبدال منها .
والصواب من القراءة عندنا ما عليه قراء الأمصار ، وذلك كسر ألف «إن » على الابتداء ، لإجماع الحجة من القراء على صحة ذلك ، وما اجتمعت عليه فحجة ، وما انفرد به المنفرد عنها فرأي ، ولا يعترض بالرأي على الحجة . وهذه الاَية ، وإن كان ظاهرها خبرا ، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجوه من أهل نجران بإخبار الله عزّ وجلّ ، عن أن عيسى كان بريئا مما نسبه إليه من نسبه ، غير الذي وصف به نفسه ، من أنه لله عبد كسائر عبيده من أهل الأرض إلا ما كان الله جل ثناؤه خصه به من النبوّة والحجج التي آتاه دليلاً على صدقه ، كما آتى سائر المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم ، والحجة على نبوّتهم .
{ إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } أي جئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربكم وهو قوله : { إن الله ربي وربكم } فإنه دعوة الحق المجمع عليها فيما بين الرسل الفارقة بين النبي والساحر ، أو جئتكم بآية على أن الله ربي وربكم وقوله : { فاتقوا الله وأطيعون } اعتراض والظاهر أنه تكرير لقوله : { قد جئتكم بآية من ربكم } أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم ، والأول لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى : { فاتقوا الله } أي لما جئتكم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعون فيما أدعوكم إليه ، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال : { إن الله ربي وربكم } إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد ، وقال { فاعبدوه } إشارة إلى استكمال القوة العلمية فإنه بملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام " قل آمنت بالله ثم استقم " .
وقوله : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } إنّ مكسورة الهمزة لا محالة ، وهي واقعة موقع التعليل للأمر بالتقوى والطاعة كشأنها إذا وقعت لِمجرّد الاهتمام كقول بشار
بَكِّرا صَاحِبَيّ قَبْلَ الهَجير *** إنّ ذَاكَ النجَاحَ في التبْكِيرِ
ولذلك قال : { ربي وربكم } فهو لكونه ربّهم حقيق بالتقوى ، ولكونه ربّ عيسى وأرسله تقتضي تقواه طاعةَ رسوله .
وقوله : فاعبدوه تفريع على الرُّبوبية ، فقد جعل قولَه إنّ الله ربي تعليلاً ثم أصلا للتفريع .
وقوله : { هذا صراط مستقيم } الإشارة إلى ما قاله كلِّه أي أنّه الحق الواضح فشبهه بصراط مستقيم لا يضلّ سالكه ولا يتحير .