ولما كان أولئك المنافقون يأوون إلى اليهود شعورا منهم بأنهم قوة تخشى وترجى . ويطلبون عندهم العون والمشورة . فإن الله ييئسهم منهم ، ويقرر أنه كتب على أعدائه الذلة والهزيمة ، وكتب لنفسه ولرسوله الغلبة والتمكين :
( إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين . كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . إن الله قوي عزيز ) . . وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق .
فالذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض ؛ ودانت لها البشرية بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية ، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد . وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد أو الشرك إلى الظهور في بعض بقاع الأرض - كما يقع الآن في الدول الملحدة والوثنية - فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة بصفة عامة . فضلا على أن فترات الإلحاد والوثنية إلى زوال مؤكد ، لأنها غير صالحة للبقاء . والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد .
والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة . فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة ، فهذا الواقع هو الباطل الزائل . الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة . لعلها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم .
وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة ، من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة ، بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية . ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين ، يحميهم من الانهيار ، ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها ، ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه . . حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى . يجده في هذا الواقع ذاته بدون حاجة إلى الانتظار الطويل ! !
وعلى أية حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود ، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون ، وأن الله ورسله هم الغالبون . وأن هذا هو الكائن والذي لا بد أن يكون . ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون !
{ إن الذين يحادون الله ورسوله }أي : يخالفون الله ورسوله فيما يأمران به وينهيان عنه .
{ أولئك في الأذلين } أي : المغلوبين المقهورين .
يخبر تعالى موجها المؤمنين مرشداً لهم إلى أقوم طريق وأكل الأحوال فيقول : { إن الذين يحادون الله ورسوله } أي يخالفونهما في أمرهما ونهيهما وما يدعوان إليه من الدين الحق { أولئك } أي المخالفون في زمرة الأذلين في الدنيا والآخرة .
- كتب الله الذل والصغار على من حاده وحاد رسوله بمخالفتهما فيما يحبان ويكرهان .
ولما بين ما أوصلهم{[63484]} إليه نسيان الذكر من الخسار ، بين أنه أوقعهم في العداوة ، فقال معللاً الخسار {[63485]}والنسيان والتحزب{[63486]} ، وأكد تكذيباً{[63487]} لحالفهم على نفي ذلك مظهراً{[63488]} موضع الإضمار للتنبيه على الوصف الموقع في الهلاك :{ إن الذين يحادون } ولعل الإدغام لسترهم ذلك بالأيمان ، ويفهم منه الحكم على{[63489]} من جاهر بطريق الأولى { الله } أي يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفوء له فعل من ينازع آخر في أرض فيغلب على طائفة منها{[63490]} فيجعل لها حداً لا يتعداه خصمه { ورسوله } الذي عظمته من عظتمه .
ولما كانوا لا يفعلون ذلك إلا لكثرة أعوانهم{[63491]} وأتباعهم ، فيظن من رآهم أنهم الأعزاء الذين لا أحد{[63492]} أعز منهم ، قال تعالى نفياً لهذا الغرور الظاهر :{ أولئك } أي الأباعد الأسافل { في الأذلين * } أي{[63493]} الذين يعرفون أنهم أذل{[63494]} الخلق بحيث يوصف كل منهم بأنه{[63495]} الأذل مطلقاً من غير مفضل عليه ليعم{[63496]} كل من{[63497]} يمكن منه ذل ، وذلك في الدنيا والآخرة سواء كانوا فارس والروم أو أعظم منهم سواء كانوا ملوكاً كفرة كانوا أو فسقة ، كما قال الحسن : إن للمعصية في قلوبهم لذلاً ، وإن طقطقت بهم اللجم .