ثم بين الله لهم في الآية التالية مصير الذين يشاقون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويخرجون عن طاعته ، ثم يصرون على هذا ويذهبون من هذه الأرض كافرين :
( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، ثم ماتوا وهم كفار ، فلن يغفر الله لهم ) . .
فالفرصة متاحة فقط للمغفرة في هذه الدنيا ؛ وباب التوبة يظل مفتوحا للكافر وللعاصي حتى يغرغر . فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة ولا مغفرة ، فقد ذهبت الفرصة التي لا تعود .
ومثل هذه الآية يخاطب المؤمنين كما يخاطب الكفار . فأما هؤلاء فهي نذارة لهم ليتداركوا أمرهم ويتوبوا قبل أن تغلق الأبواب . وأما أولئك فهي تحذير لهم وتنبيه لاتقاء كافة الأسباب التي تقرب بهم من هذا الطريق الخطر المشؤوم !
{ 34-35 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }
هذه الآية والتي في البقرة قوله : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } مقيدتان ، لكل نص مطلق ، فيه إحباط العمل بالكفر ، فإنه مقيد بالموت عليه ، فقال هنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر { وَصَدُّوا } الخلق { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } بتزهيدهم إياهم بالحق ، ودعوتهم إلى الباطل ، وتزيينه ، { ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } لم يتوبوا منه ، { فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } لا بشفاعة ولا بغيرها ، لأنه قد تحتم عليهم العقاب ، وفاتهم الثواب ، ووجب عليهم الخلود في النار ، وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار .
ومفهوم الآية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم ، فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ، ويدخلهم الجنة ، ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله ، والإقدام على معاصيه ، فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة ، ولم يغلقها عن أحد ، ما دام حيا متمكنا من التوبة .
وسبحان الحليم ، الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة ، بل يعافيهم ، ويرزقهم ، كأنهم ما عصوه مع قدرته عليهم .
ولما دل ما أخبر به أولاً عن المشاققين على أنهم مغلوبون في الدنيا خاسرون في الآخرة ، وكانت الخسارة في الآخرة مشروطة بشرط ، علل ما أمر به المؤمنون هنا من الطاعة ونهوا عنه من إبطال الأعمال بالمعصية ، زيادة-{[59920]} في حثهم على ما أمر به بعلتين كل منها مستقل بامتثال أمره واجتناب نهيه : إحدهما{[59921]} عدم المغفرة ، والثانية بطلان الأعمال والأموال بكون الدنيا لا حقيقة لها ، وقدم الأولى لأن الثانية - وهي أن الدنيا لعب - كالعلة الحاصلة على ما أوجبها ، ومن حسن التعليم بيان الحكم ثم تعليله بأقرب ما يحمل عليه أو يصد عنه ، فكأنه قيل : لا تبطلوها بالصد عن سبيل الله الحامل عليه الإقبال على الدنيا التي هي عين الباطل ، فإنكم إن فعلتم ذلك فاتتكم المغفرة ، وذلك من معنى قوله تعالى مؤكداً لإنكارهم مضمونه : { إن الذين كفروا } أي أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دله{[59922]} عليه عقله من آيات الله المرئية ثم المسموعة { وصدوا عن سبيل الله } أي طريق الملك الأعلى الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراده بتماديهم على باطلهم{[59923]} وأذاهم لمن خالفهم .
ولما كان هذا أمراً قبيحاً من جهات عديد لما فيه من مخالفة الملك الأعظم المرهوب بطشه المحذورة{[59924]} سطوته ، ومن ترك الواسع{[59925]} إلى الضيق والمستقيم إلى المعوج والموصل إلى الفوز إلى-{[59926]} الموصل إلى الخيبة ، فكان التمادي فيه في غاية البعد ، نبه على ذلك بأداة التراخي فقال : { ثم ماتوا } أي بعد المدلهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم { وهم } أي والحال أنهم { كفار } ولما كان السبب الأعظم في الإحباط الموت على الكفر ، نبه{[59927]} عليه بالفاء الدالة على ربط الجزاء بالشرط وتسببه عنه فقال مؤكداً له-{[59928]} لإنكارهم ذلك : { فلن يغفر الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال التي تمنع من تسوية المسيء بالمحسن { لهم } فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم ، بل يفضح سرائرهم ويوهن كيدهم ويردهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة ، فلم يبق لهم ما يغفر لهم{[59929]} بسببه ، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أن إحباط العمل{[59930]} في المرتد مشروط بالموت على الكفر .