فأما النبي الذي يبلغهم اختيار الله لهم ؛ ويحقق بسنته العملية ما اختاره الله وشرعه للعباد ، فيلتفت السياق التفاتة كذلك إلى بيان وظيفته وفضله على المؤمنين في هذا المقام :
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا . وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا . ولا نطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم ، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا . .
فوظيفة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيهم أن يكون( شاهدا ) ، عليهم . فليعملوا بما يحسن هذه الشهادة التي لا تكذب ولا تزور ، ولا تبدل ، ولا تغير . وأن يكون( مبشرا )لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران ، ومن فضل وتكريم . وأن يكون( نذيرا )للغافلين بما ينتظر المسيئين من عذاب ونكال ، فلا يؤخذوا على غرة ، ولا يعذبوا إلا بعد إنذار .
{ 45 - 48 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
هذه الأشياء ، التي وصف الله بها رسوله محمدًا صلى اللّه عليه وسلم ، هي المقصود من رسالته ، وزبدتها وأصولها ، التي اختص بها ، وهي خمسة أشياء : أحدها : كونه { شَاهِدًا } أي : شاهدًا على أمته بما عملوه ، من خير وشر ، كما قال تعالى : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } فهو صلى اللّه عليه وسلم شاهد عدل مقبول .
الثاني ، والثالث : كونه { مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر ، وما يبشر به وينذر ، والأعمال الموجبة لذلك .
فالمبشَّر هم : المؤمنون المتقون ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، وترك المعاصي ، لهم البشرى في الحياة الدنيا ، بكل ثواب دنيوي وديني ، رتب على الإيمان والتقوى ، وفي الأخرى بالنعيم المقيم .
وذلك كله يستلزم ، ذكر تفصيل المذكور ، من تفاصيل الأعمال ، وخصال التقوى ، وأنواع الثواب .
والْمنْذَر هم ، هم : المجرمون الظالمون ، أهل الظلم والجهل ، لهم النذارة في الدنيا ، من العقوبات الدنيوية والدينية ، المترتبة على الجهل والظلم ، وفي الأخرى ، بالعقاب الوبيل ، والعذاب الطويل .
وهذه الجملة تفصيلها ، ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم ، من الكتاب والسنة ، المشتمل على ذلك .
هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، وتكريم لجميعهم . وهذه الآية من أسمائه صلى الله عليه وسلم ست أسماء ولنبينا صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة ، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة . وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد . وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول : ( لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ) . وفي صحيح مسلم حديث جبير بن مطعم : وقد سماه الله " رؤوفا رحيما " . وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء ، فيقول : ( أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة ) . وقد تتبع القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المسمى ( بالشفا ) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم ومما نقل في الكتب المتقدمة{[12852]} ، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفات عديدة ، قد صدقت عليه صلى الله عليه وسلم مسمياتها ، ووجدت فيه معانيها . وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم سبعة وستين اسما وذكر صاحب ( وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين ) عن ابن عباس أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مائة وثمانين اسما ، من أرادها وجدها هناك . وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا ، فبعثهما إلى اليمن ، وقال : ( اذهبا فبشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أنزل عليّ ) وقرأ هذه الآية .
قوله تعالى : " شاهدا " قال سعيد عن قتادة : " شاهدا " على أمته بالتبليغ إليهم ، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم ، ونحو ذلك " ومبشرا " معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة " ونذيرا " معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد . " وداعيا إلى الله " الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به ، ومكافحة الكفرة . " بإذنه " هنا معناه : بأمره إياك ، وتقديره ذلك في وقته وأوانه . " وسراجا منيرا " هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه . وقيل : " وسراجا " أي هاديا من ظلم الضلالة ، وأنت كالمصباح المضيء . ووصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء ، إذا قل سليطه{[12853]} ودقت فتيلته . وفي كلام بعضهم : ثلاثة تضني : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظر لها من يجيء . وسئل بعضهم عن الموحشين فقال : ظلام ساتر وسراج فاتر . وأسند النحاس قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي قال حدثنا عبد الرحمن ، بن محمد المحاربي عن شيبان النحوي قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا فقال : ( انطلقا فبشرا ولا تعسرا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا . ومبشرا ونذيرا - من النار - وداعيا إلى الله - قال - شهادة أن لا إله إلا الله - بإذنه - بأمره - وسراجا منيرا - قال - بالقرآن " . وقال الزجاج : " وسراجا " أي وذا سراج منير ، أي كتاب نير . وأجاز أيضا أن يكون بمعنى : وتاليا كتاب الله .
ولما وعظ المؤمنين فيه صلى الله عليه وسلم وهذبهم له بما أقبل بأسماعهم وقلوبهم إليه ، وختم بما يوجب لهم الفوز بما عنده سبحانه ، وكان معظم ذلك له صلى الله عليه وسلم فإنه رأس المؤمنين ، أقبل بالخطاب عليه ووجهه إليه فقال منوهاً من{[55757]} ذكره ومشيداً من قدره بما ينتظم بقوله{[55758]} { الذين يبلغون رسالات الله } الآية وما جرها من العتاب : { يا أيها النبي } أي{[55759]} الذي مخبره{[55760]} بما لا يطلع عليه غيره .
ولما كان الكافرون - المجاهرون منهم والمساترون - ينكرون الرسالة وما تبعها ، أكد قوله في أمرها وفخمه فقال : { إنا أرسلناك } أي بعظمتنا بما ننبئك به إلى سائر خلقنا { شاهداً } أي عليهم ولهم مطلق شهادة ، لأنه لا يعلم بالبواطن إلا الله ، وأنت مقبول الشهادة ، فأبلغهم جميع الرسالة سرهم ذلك أو ساءهم سرك فعلهم أو ساءك .
ولما كان المراد الإعلام برسوخ قدمه في كل من هذه الأوصاف ، عطفها بالواو فقال : { ومبشراً } أي لمن شهدت لهم{[55761]} بخير بما يسرهم ، وأشار إلى المبالغة في البشارة بالتضعيف{[55762]} لما لها من حسن الأثر في إقبال المدعو وللتضعيف من الدلالة على كثرة الفعل والمفعول بشارة بكثرة التابع وهو السبب لمقصود السورة{[55763]} ، {[55764]}وكانت المبالغة في النذارة أزيد لأنها أبلغ في رد المخالف وهي المقصود بالذات من الرسالة لصعوبة الاجتراء عليها فقال{[55765]} : { ونذيراً } أي{[55766]} لمن شهدت عليهم بشر{[55767]} بما يسوءهم