( أم لهم إله غير الله ? ) . . يقيهم ويتولاهم ويرد عنهم كيد الله . . ( سبحان الله عما يشركون )وتنزه - سبحانه - عن تصورهم الباطل السقيم !
وبهذا التنزيه لله سبحانه عن الشرك والشركاء تختم هذه الحملة المتلاحقة الخطى ، القوية الإيقاع . وقد انكشفت كل شبهة ، ودحضت كل حجة ، ووقف القوم أمام الحقيقة العارية مجردين من كل عذر ومن كل دليل . عندئذ يقدمهم على حقيقتهم معاندين مكابرين يمارون في الحق الواضح ، متمسكين بأدنى شبهة من بعيد :
43- { أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
44- والاستفهام في هذه الجمل كلها للتوبيخ والتقريع والإنكار .
هل لهؤلاء الكفار إله غير الله خلقهم وسوّاهم ، وأحياهم ويميتهم ، فهم لذلك يعبدونه ، ويشركون عبادته مع عبادة الله ؟ تنزه الله عن أن يكون له شريك أو مثيل أو ند أو نظير .
قال تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . ( الشورى : 11 ) .
هو وحده الذي يملك خلق السماء ، وخلق الأرض ، وخلق الإنسان متدرجا في مراحل حياته ، من نطفة إلى علقة إلى مضغة ، إلى أن تنفخ فيه الروح ، ويخرج للحياة وليدا ، فيجعل له للنظر عينين ، وللسمع أذنين ، وللبطش يدين ، وللمشي رجلين ، ثم يمرّ هذا الوليد بمراحل الطفولة ثم الشباب ثم الشيخوخة ، ثم الموت ، ثم البعث والحشر والحساب ، والثواب أو العقاب ، فالله وحده هو الذي يخلقهم ثم يرزقهم .
قال تعالى : { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . ( الجاثية : 26 )
{ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ } أي : ألهم إله يدعى ويرجى نفعه ، ويخاف من ضره ، غير الله تعالى ؟ { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فليس له شريك في الملك ، ولا شريك في الوحدانية والعبادة ، وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله ، وهو بطلان عبادة ما سوى الله وبيان فسادها بتلك الأدلة القاطعة ، وأن ما عليه المشركون هو الباطل ، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويصلى له ويسجد ويخلص له دعاء العبادة ودعاء المسألة ، هو الله المألوه المعبود ، كامل الأسماء والصفات ، كثير النعوت الحسنة ، والأفعال الجميلة ، ذو الجلال والإكرام ، والعز الذي لا يرام ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الكبير الحميد المجيد .
ولما كان التقدير : أكذلك الأمر عادله بقوله : { أم لهم إله } يمنعهم من التصديق بكتابنا ، أو يستندون إليه للأمان من عذابنا { غير الله } الذي أحاط بجميع صفات الكمال ، فلا يمكن بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير أن يكون معه إله ، ولذلك وصل به قوله : { سبحان الله } أي الملك الأعظم الذي تعالى أن يداني جنابه شائبة نقص { عما يشركون } من الأصنام وغيرها ، وأخر سبحانه هذا القسم وهو من الشركة لكن بالغير لأنه آت على تقدير التصديق للرسول صلى ولأنه دينهم الذي أوقفهم عن الهدى ، فأوقعهم في الردى ، ليحتم بنفسه والتنزيه عن الإقسام فيحصل به غاية القصد والمرام .
والحاصل أنه قسم به سبحانه حالهم في ردهم القرآن إلى التكذيب وغيره ، ولما كان التكذيب - وهو النسبة إلى الكذب وهو عدم المطابقة للواقع - إما في الإرسال ، وإما في المعاني ، و{[61625]}ما وقع به الإرسال إما لنقص في الرسول {[61626]}وإما{[61627]} النقص في المرسل ، والذي في الرسول إما أن يكون لأمر خارج عنه أو لأمر داخل فيه ، ولما كان الخارج قد يكون معه نقص دخل بذاته ، ولما كان ذلك قد يكون فيه ما يمدح به ولو من وجه ، وهو الكهانة بدأ بها ، وأتبعه الداخل لذلك بادئاً بما قد يمدح به وهو الشعر . ولما كان القول بجمع الكهانة و{[61628]}الشعر والجنون{[61629]} في شخص واحد على غاية من ظهور التناقص لا يخفى ، أتبعها الرمي بالتهكم على عقولهم . ولما كان الكذب في الرمي بالتقول قد يخفى ، أتبعه دليله بالعجز عن المعارضة . ولما قسم ما رموا به الرسول ، أتبعهم ما ألزمهم به في المرسل ، ولما كان ذلك إما أن يكون بالتعطيل أو لا ، وكان التعطيل أشد ، بدأ به وهو الخلق من غير شيء ، ولما كان النقص مع الإقرار بالوجود إما أن يكون بالشركة أولاً ، وكان ما بالشركة إما أن يكون المكذب هو المشارك أولاً ، وكانت شركة المكذب أقعد في التكذيب بدأبها ، ولما كانت شركة المكذب{[61630]} إما أن تكون في الخلق أو لا ، وكان الأول إما أن يكون بخلق النفس أو{[61631]} الغير ، وكانت الشركة بخلق النفس ألصق ، بدأ بها قوله : { أم هم الخالقون } ولما كانت الشركة بغير الخلق إما أن يكون بضبط الحواس أو لا ، وكان الثاني إما أن يكون بضبط الكتاب فيها وإليه الإشارة بالمسيطر ، أو بضبط ما يؤمر به فيها وإليه الإشارة بالسلم أو بسفه صاحب الخزائن لرضاه بالبنات ، وكان كل قسم أشد مما بعده رتبه{[61632]} هكذا . ولما انتهى ما يرجع إلى التكذيب ، أتبعه الرد لا للتكذيب بل لأمر آخر ، ولما كان ذلك الأمر إما من الآتي أو من المأتي إليه{[61633]} أو من غيرهما ، كان ما من الآتي ألصق بدأ به وهو المغرم ، ولما كان ما من المأتي إليه إما لحسد أو غيره ، وكان أمر الحسد أشد ، بدأ به وهو المشاركة في الأبناء بما يكون به الفخر والرئاسة وهو علم الغيب{[61634]} - الناظر بوجه للكهانة المبدوء بها في قسم التكذيب ، وآخر ما من الغير{[61635]} وهو الشريك المانع لهم من القبول ، وخلطه بهذا القسم مع كونه قسيماً لما فرض فيه المكذب مشاركاً لخلوه عما قارن تلك الأقسام من التكذيب ، هذا تمام القول في إبطال ما لزمهم فيما تقولوه في أمر القرآن ، وقد تضمن ما ترى من تأصيله وتقسيمه وتفصيله من بيان مقدورات الله وعجائب مصنوعاته ما ألزمهم حتماً التوحيد الملزم بتصديق الرسالة والإذعان للحق مع ما له من الإعجاز في ترتيبه ونظمه وتهذيبه وتسهيله وتقريبه مجلوا أسلوبه العظيم بألفاظ هي الدر النظيم ، ومعان علت عن لاحق بغريزة أو تعليم ، يكاد لها أثبت القلوب يهيم فيطير ، وأبلغ البلغاء في افنان روحها يتدله ويحير ، فكان ذلك كما قال جبير بن مطعم رضي الله عنه كما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور ، وقال البخاري في التفسير : فلما بلغ هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } { أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون } كاد قلبي يطير ، وقال ابن ماجه : فلما سمعه يقرأ { أم من غير شيء أم هم الخالقون }{[61636]} - إلى قوله - { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } كاد قلبي يطير .