وما دامت قلوبهم لا تستشعر حقيقة هذا التنزيل ؛ فهو يتحداهم إذن ببرهان الواقع الذي لا يقبل المراء : ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) .
وقد تكرر هذا التحدي في القرآن الكريم ؛ وتلقاه المنكرون عاجزين ، ووقفوا تجاهه صاغرين . وكذلك يقف أمامه كل أحد إلى يوم الدين .
إن في هذا القرآن سرا خاصا ، يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء ، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها . إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن . يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير . وأن هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن . يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا ، ولكنه على كل حال موجود . هذا العنصر الذي ينسكب في الحس ، يصعب تحديد مصدره : أهو العبارة ذاتها ? أهو المعنى الكامن فيها ? أهو الصور والظلال التي تشعها ? أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة ? أهي هذه العناصر كلها مجتمعة ? أم إنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود ? !
ذلك سر مودع في كل نص قرآني ، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء . . ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله :
في التصور الكامل الصحيح الذي ينشئه في الحس والقلب والعقل . التصور لحقيقة الوجود الإنساني ، وحقيقة الوجود كله ، وللحقيقة الأولى التي تنبع منها كل حقيقة . حقيقة الله سبحانه .
وفي الطريقة التي يتبعها القرآن لبناء هذا التصور الكامل الصحيح في الإدراك البشري . وهو يخاطب الفطرة ، خطابا خاصا ، غير معهود مثله في كلام البشر أجمعين ؛ وهو يقلب القلب من جميع جوانبه ومن جميع مداخله ، ويعالجه علاج الخبير بكل زاوية وكل سر فيه .
وفي الشمول والتوازن والتناسق بين توجيهاته كلها ، والاستواء على أفق واحد فيها كلها . مما لا يعهد اطلاقا ، في أعمال البشر ، التي لا تستقر على حال واحدة ، ولا تستقيم على مستوى واحد ، ولا تحيط هكذا بجميع الجوانب ، ولا تملك التوازن المطلق الذي لا زيادة فيه ولا نقص ، ولا تفريط فيه ولا إفراط ، والتناسق المطلق الذي لا تعارض فيه ولا تصادم سواء في ذلك الأصول والفروع .
فهذه الظواهر المدركة . . وأمثالها . . مع ذلك السر الخافي الذي لا سبيل إلى انكاره . . . مما يسبغ على هذا الكتاب سمة الإعجاز المطلق في جميع العصور . وهي مسألة لا يماري فيها إنسان يحترم حسه ، ويحترم نفسه ، ويحترم الحقيقة التي تطالعه بقوة وعمق ووضوح ، حيثما واجه هذا القرآن بقلب سليم . . ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) . .
34- { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } .
والقرآن منطقي معهم ، فخلاصة معنى الآية السابقة : إن محمدا عبقريّ ، قد تقوّل القرآن من عند نفسه ، ونسبه إلى الله تعالى كذبا وزورا .
وهنا يمسك القرآن بتلابيبهم فيقول : محمد نشأ بينكم ، وما قرأ كتابا ، ولا اشترك في مناقشة شاعر أو كاهن ، أو خطيب أو فصيح من فصحائكم ، فإذا ادعيتم أنه تقوّل القرآن ، أي نسبه كذبا إلى الله تعالى ، كان المعنى : إن في استطاعة الأذكياء منكم أن يأتوا بمثله فافعلوا ، وائتوا بقرآن مثل هذا إن كنتم صادقين ، أو ائتوا بعشر سور مثله مفتريات ، أو ائتوا بسورة مما نزلنا على عبدنا ، ثم تحدّاهم أمثالهم من الملحدين المحدثين ، الذين يدّعون أن القرآن نتاج عبقرية محمد ، وقوة تخيّله أو هو نوع من أحلام اليقظة ، أو منظومة إصلاحية عالية .
هذه التهم التي يذكرها بعض المستشرقين ، وبعض من يسيرون خلفهم ، فنَّدها القرآن سابقا بهذا التحدي : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } .
هؤلاء هم الفلاسفة ، وعلماء النفس والاجتماع ، والأدباء والشعراء ، والكتّاب والقصاص ، هل في استطاعتهم أفرادا أو مجتمعين ، أن يأتوا بمثل هذا الكتاب ؟
إن كان الملحدون صادقين ، { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ } . . .
قال تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا . } ( الإسراء : 88 )
إن إعجاز القرآن تنوع في عصور تاريخية ، فكان كتاب كل العصور ، فعند نزوله كان العرب أرباب الفصاحة والبيان فتحدّى القرآن العرب ، وطالت مدة التحدّي ، وقد حارب العرب محمدا ، وقاتلوه وقاتلهم ، وهزموه في معارك قليلة ، وهزمهم في معارك كثيرة .
وكان الباعث لهم على اختراع مثل القرآن موجودا ، ومحاولة انتصاف المشركين لأنفسهم موجودة ، ولقد حاول المشركون الإتيان بمثل القرآن ، وجاءوا بكلام دون القرآن بكثير ، وكانت محاولاتهم أدل على إعجاز القرآن وتفوّقه عن المماثلة .
قال بعضهم : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وجاهر . . .
وقال مسيلمة الكذاب : والزارعات زرعا ، فالحاصدات حصدا ، فالعاجنات عجنا ، فالخابزات خبزا ، فالآكلات لقما . . . ، فقال له أحد المسلمين : وماذا بعد ذلك ؟
وعندما تقدمت العلوم والفنون ، ظنّ الملحدون أن أهمية الأديان ستقل أمام التقدم العلمي ، والإحصاءات العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها تؤيد حاجة الأفراد والمجتمعات إلى الدّين ، فهو شفاء النفس ، وسعادة الإنسان الحقيقية ، وقد أشار إحصاء لطبيب أمريكي أجراه على آلاف المرضى المترددين على عيادات الأطباء في أمريكا ، وظهر من الإحصاء أن 50% ( خمسين في المائة ) من المترددين على عيادات الأطباء ، ليست بهم أمراض إكلينيكية أو عضوية ، وإنما هو الإحباط والخوف والحيرة والتردد ، وإن الدّين هو أفضل علاج لمثل هذه الأمراض ، التي يعجز الطب البشري عن علاجها .
إن القرآن شفاء مادّي ومعنوي للمجتمعات والأفراد .
قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا } . ( الإسراء : 82 ) .
{ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } أنه تقوله ، فإنكم العرب الفصحاء ، والفحول البلغاء ، وقد تحداكم أن تأتوا بمثله ، فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه ، وأنكم لو اجتمعتم ، أنتم والإنس والجن ، لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله ، فحينئذ أنتم بين أمرين : إما مؤمنون به ، مهتدون بهديه ، وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل .
ولما كان هذا القول أظهر بطلاناً من كل ما قالوه لأن تكذيبهم لهم على تقدير كذبه - على زعمهم - غير موقوف على شيء خارج عن القوة ، طالبهم بالمعارضة لأنهم إذا عارضوه بمثله انفصل النزاع ، ولذلك سبب عما مضى قوله تكذيباً لهم في قولهم هذا الذي أظهروه بألسنتهم يوقفون به غيرهم عن الخير : { فليأتوا } أي على تقدير أرادوه { بحديث } أي كلام مفرق مجدد إتيانه مع الأوقات لا تكلفهم أن يأتوا به جملة { مثله } أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه والحكم .
ولما كان المقصود هنا مطلق التعجيز للمكذبين لا بقيد الاجتماع كما في سبحان لأن نزول هذه أوائل ما نزل ، تحداهم بالإتيان بالمثل في التنجيم والتطبيق على الوقائع سوراً أو آيات أو دون ذلك ، تحدث وتتجدد شيئاً في أثر شيء - بما أشار إليه التعبير بالحدوث ، ولذلك أعراه عن تظاهرهم بالاجتماع ودعاء المستطاع ، ولكونهم{[61594]} كاذبين في جزمهم{[61595]} بنسبته إلى التقول وغيره ، أشار إلى ذلك بقوله مقرعاً لهم إلهاباً إلى الخوض في المعارضة : { إن كانوا } أي كوناً هم راسخون فيه { صادقين * } أي في أنه تقوله من عند نفسه شيئاً فشيئاً ، كوناً{[61596]} هم عريقون فيه كما يزعمون سواء ادعوا أنه شاعر أو كاهن أو مجنون أو غير ذلك ، لأن العادة تحيل أن يأتي واحد من قوم وهو مساوٍ لهم بما لا يقدرون كلهم{[61597]} على مثله ، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به ، ويلزم{[61598]} من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به ، فإنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب ، وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء ، ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك ، فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي ، وهو المراد من تكذيبهم ، وقد علم من هذا ومما تقدم من نحوه مفرقاً في السور التي فيها مثله أن المتحدى به في كل سورة غير المتحدى به في الأخرى - والله الهادي ، وهذه الأقسام الماضية من تكذيبهم تتأتى أن تكون على تقدير الاعتقاد للإله على ما هو عليه من صفات الكمال فأتبعها قسماً على تقدير التعطيل ، وإذا لم يكن إله لم يكن رسول فيأتي التكذيب ، ثم أتبع ذلك قسماً آخر هو على تقدير إثبات الإله لكن مع الضعف بالشركة ، ولكون{[61599]} الشركة تارة تكون من المتكلم وتارة من غيره ، قدم منها ما للمتكلم على زعمه ، وقدم{[61600]} تقدير شركته بالخلق ثم بضبط الخزائن ثم بالكتابة ثم بسماع الأسرار ثم بضعف السعة بالرضا بالصنف الأردأ .