أما الشوط الثاني فهو مثير للحس ، ولكن بما فيه من رخاء ورغد ، وهتاف بالمتاع لا يقاوم ، وبخاصة بعد مشهد العذاب البئيس :
( إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ، ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذريتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء ، كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون ، يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا : إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ؛ فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه ، إنه هو البر الرحيم ) . .
والمشهد أقرب إلى مشاهد النعيم الحسي ، الذي يخاطب المشاعر في أول العهد ، والذي يجتذب النفوس بلذائذ الحس في صورتها المصفاة . وهو مقابل لذلك العذاب الغليظ التي تواجه به القلوب الجاسية والقلوب اللاهية كذلك :
( إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ، ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ) . .
ومجرد الوقاية من عذاب الجحيم الذي عرضت مشاهده في هذه السورة فضل ونعمة . فكيف ومعه ( جنات ونعيم )? وهم يلتذون ما آتاهم ربهم ويتفكهون ?
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( 17 ) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 18 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 19 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } .
17- { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } .
من شأن القرآن أن يتحدث عن عذاب الكافرين ، ثم يعقِّب بنعيم المؤمنين ، وفي هذا شدة عذاب للكافرين وشدة نعيم للمتقين ، حيث يشاهد الكافرون أن المتقين في نعيم متعدد الأنواع والأجناس ، وحيث يشاهد المتقون أن الله قد عافاهم من عذاب الجحيم ، وبضدّها تتميز الأشياء .
ومعنى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } .
إن الذين اتقوا الله وراقبوه ، وأطاعوا أمره ، واجتنبوا معاصيه ، يدخلهم الله جنات عظيمة ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، يتمتعون فيها بنعيم عظيم دائم ، وراحة بال ، ويجدون فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذُّ الأعين . وهم فيها خالدون .
{ 17-20 } { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ }
لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين ، ذكر نعيم المتقين ، ليجمع بين الترغيب والترهيب ، فتكون القلوب بين الخوف والرجاء ، فقال : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ } لربهم ، الذين اتقوا سخطه وعذابه ، بفعل أسبابه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي .
{ فِي جَنَّاتِ } أي : بساتين ، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفة ، والأنهار المتدفقة ، والقصور المحدقة ، والمنازل المزخرفة ، { وَنَعِيمٍ } [ وهذا ] شامل لنعيم القلب والروح والبدن ،
ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب المشار إليه بكلمات القسم ، أتبعه ما لأضدادهم من الثواب المنبه عليه أيضاً بتلك الكلمات ليتم الخبر ترغيباً وترهيباً ، فقال جواباً لمن كأنه قال : فما لمن عاداهم فيك ؟ مؤكداً لما للكفار من التكذيب : { إن المتقين } أي الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة { في جنات } أي بساتين دائماً في الدنيا حكماً وفي الآخرة .
ولما كانت البساتين ربما يشقى داخلها أو صاحبها ، نفى هذا بقوله{[61553]} : { ونعيم * } أي نعيم في العاجل ، يعني بما هم فيه من الأنس ، والآجل بالفعل ،