هنا ينطلق صوت التحميد لله والتمجيد الانطلاقة الأخيرة في السورة بعد هذا المشهد المؤثر العميق :
( فلله الحمد . رب السماوات . ورب الأرض . رب العالمين . وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) . .
ينطلق صوت التحميد . يعلن وحدة الربوبية في هذا الوجود . سمائه وأرضه . وإنسه وجنه . وطيره ووحشه . وسائر ما فيه ومن فيه . فكلهم في رعاية رب واحد يدبرهم ويرعاهم وله الحمد على الرعاية والتدبير .
36 ، 37- { فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين * وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } .
بينت السورة آلاء الله أفضاله ، واشتملت على البراهين الساطعة ، والنصوص القاطعة في المبدأ والميعاد ، وانتهاء الأخيار إلى الجنة ، والفجار إلى النار ، وعند هذه النهاية تعلن السورة أن الحمد كله والثناء كله والمجد كله والعظمة كلها لله خالق الكون ، رب السماوات وما أظلت ، ورب الأرضين وما أقلت ، ورب العالمين ، وهو الإله الحق لكل ما عدا الله .
ولما أثبت سبحانه بعده بإثبات الآيات المرئية والمسموعة وإعزاز أوليائه وإذلال أعدائه من غير مبالاة بشيء ولا عجز عن شيء مع الإحاطة التامة بكل{[58410]} شيء قدرة وعلماً ، تسبب عن ذلك حتماً قوله تعالى : { فللّه } أي الذي له الأمر كله { الحمد } أي الإحاطة بجميع صفات{[58411]} الكمال . ولما أبان سبحانه{[58412]} أن ذلك ثابت له لذاته لا لشيء آخر ، أثبت أنه له بالإحسان والتدبير فقال تعالى : { رب السماوات } أي ذات العلو والاتساع والبركات . ولما كان السياق لإثبات الاختصاص بالكمال ، وكانوا قد جعلوا له سبحانه ما دل على-{[58413]} أنهم لا شبهة لهم في عبادتهم بحصر{[58414]} أمرهم في الهوى ، أعاد ذكر الرب تأكيداً وإعلاماً أن له في كل واحد من الخافقين أسراراً غير ما له في الآخر{[58415]} ، فالتربية متفاوتة بحسب ذلك ، وأثبت العاطف إعلاماً بأن كمال قدرته في ربوبيته {[58416]}للأعلى والأسفل{[58417]} على حد سواء دفعاً لتوهم أن حكمه في الأعلى أمكن لتوهم الاحتياج إلى مسافة فقال تعالى{[58418]} : { ورب الأرض } أي ذات القبول للواردات .
ولما خص الخافقين تنبيهاً على الاعتبار بما فيهما من الآيات لظهورها ، عم تنبيهاً على {[58419]}أن له{[58420]} وراء ذلك من الخلائق ما لا يعلمه إلا الله {[58421]}سبحانه وتعالى{[58422]} فقال مسقطاً العاطف لعدم الاحتياج إليه بعد إثبات استواء الكونين الأعلى والأسفل في حكمه من حيث العلم والقدرة للتنزه عن المسافة ، وذلك لا يخرج عنه شيء من الخلق ؛ لأنه إما أن يكون علوياً أو سفلياً { رب العالمين * } فجمع ما مفرده يدل على جميع الحوادث ؛ لأن العالم ما سوى الله . تنبيهاً على أصنافه وتصريحاً بها وإعلاماً بأنه أريد به مدلوله المطابقي لا البعض بدلالة التضمن ، وأعاد ذكر الرب تنبيهاً على أن حفظه للخلق وتربيته لهم ذو ألوان بحسب شؤون{[58423]} الخلق ، فحفظه لهذا الجزء على وجه يغاير حفظه لجزء آخر ، وحفظه للكل من حيث هو كل على وجه يغاير حفظه-{[58424]} لكل جزء على حدته ، مع أن الكل بالنسبة إلى تمام القدرة على حد سواء .