التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَلِلَّهِ ٱلۡحَمۡدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلۡأَرۡضِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (36)

الفاء لتفريع التحميد والثناء على الله تفريعاً على ما احتوت عليه السورة من ألطاف الله فيما خلق وأرشد وسخر وأقام من نُظم العدالة ، والإنعام على المسلمين في الدنيا والآخرة ، ومن وعيد للمعرضين واحتجاج عليهم ، فلما كان ذلك كله من الله كان دالاً على اتّصافه بصفات العظمة والجلال وعلى إفضاله على الناس بدين الإسلام كان حقيقاً بإنشاء قصر الحمد عليه فيجوز أن يكون هذا الكلام مراداً منه ظاهر الإخبار ، ويجوز أن يكون مع ذلك مستعملاً في معناه الكنائي وهو أمر الناس بأن يقصروا الحمد عليه . ويجوز أن يكون إنشاء حمدٍ لله تعالى وثناء عليه . وكل ما سبقه من آيات هذه السورة مقتض للوجوه الثلاثة ، ونظيره قوله تعالى : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين } في سورة الأنعام ( 45 ) .

وتقديم ( لله ) لإفادة الاختصاص ، أي الحمد مختص به الله تعالى يعني الحمد الحق الكامل مختص به تعالى كما تقدم في سورة الفاتحة .

وإجراء وصف { رب السموات } على اسمه تعالى إيماء إلى علّة قصر الحمد على الله إخباراً وإنشاءً تأكيداً لما اقتضته الفاء في قوله : { فللَّه الحمد } . وعُطف { وربّ الأرض } بتكرير لفظ { رب } للتنويه بشأن الربوبية لأن رب السماوات والأرض يحق حمده على أهل السماء والأرض ، فأما أهل السماء فقد حمدوه كما أخبر الله عنهم بقوله : { والملائكةُ يسبحون بحمد ربّهم } [ الشورى : 5 ] . وأما أهل الأرض فمن حمده منهم فقد أدى حق الربوبية ومن حمد غيره وأعرض عنه فقد سجل على نفسه سِمة الإباق ، وكان بمأوَى النار محَلّ استحقاق .

ثم أتبع بوصف { رب العالمين } وهم سكان السماوات والأرض تأكيداً لكونهم محقوقين بأن يحمدوه لأنه خالق العوالم التي هم منتفون بها وخالق ذواتهم فيها كذلك .