( يوم تكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن ) . .
والمهل ذوب المعادن الكدر كدردي الزيت . والعهن هو الصوف المنتفش . والقرآن يقرر في مواضع مختلفة أن أحداثا كونية كبرى ستقع في هذا اليوم ، تغير أوضاع الأجرام الكونية وصفاتها ونسبها وروابطها . ومن هذه الأحداث أن تكون السماء كالمعادن المذابة . وهذه النصوص جديرة بأن يتأملها المشتغلون بالعلوم الطبيعية والفلكية . فمن المرجح عندهم أن الأجرام السماوية مؤلفة من معادن منصهرة إلى الدرجة الغازية - وهي بعد درجة الانصهار والسيولة بمراحل - فلعلها في يوم القيامة ستنطفئ كما قال : ( وإذا النجوم انكدرت )وستبرد حتى تصير معادن سائلة ! وبهذا تتغير طبيعتها الحالية وهي الطبيعة الغازية !
على أية حال هذا مجرد احتمال ينفع الباحثين في هذه العلوم أن يتدبروه . أما نحن فنقف أمام هذا النص نتملى ذلك المشهد المرهوب ، الذي تكون فيه السماء كذوب المعادن الكدر ، وتكون فيه الجبال كالصوف الواهن المنتفش . ونتملى ما وراء هذا المشهد من الهول المذهل الذي ينطبع في النفوس ، فيعبر عنه القرآن أعمق تعبير :
المهل : دردى الزيت ، وهو ما يكون في قعر الإناء منه ، أي كعكر الزيت .
العهن : الصوف المصبوغ ألوانا .
8 ، 9- يوم تكون السماء كالمهل* وتكون الجبال كالعهن .
نفقد السماء تماسكها ، وتنشقّ وتتشقق يوم القيامة ، وربما رجعت إلى حالتها الغازية الأولى .
قال تعالى : ويوم تشقّق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا* الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا . ( الفرقان : 25 ، 26 ) .
والمهل دردى الزيت ، أو الزيت العكر ، ولون السماء الآن يميل إلى الخضرة ، فيتغيّر لونها ويشبه ما أذيب من النحاس والرصاص والفضة ، ويتحوّل لونها من الخضرة إلى الحمرة .
تكون الجبال متناثرة متطايرة في الجوّ ، تشبه الصوف المنفوش .
وعن الحسن : تسيّر الجبال مع الرياح ، ثم تنهدّ ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنسف فتصير هباء .
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
المراد بالعهن المنفوش : الصوف المصبوغ ألوانا ، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها ، وعرابيب سود ، فإذا بسّت وطيّرت في الجوّ أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح .
{ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } وهو الصوف المنفوش ، ثم تكون بعد ذاك هباء منثورا فتضمحل ، فإذا كان هذا القلق والانزعاج لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة ، فما ظنك بالعبد الضعيف الذي قد أثقل ظهره بالذنوب والأوزار ؟
أليس حقيقا أن ينخلع قلبه وينزعج لبه ، ويذهل عن كل أحد ؟ ولهذا قال : { وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فشبهها في اللين والوهن بالصوف المنفوش بعد القوة، وذلك أوهن ما يكون من الصوف.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
كالصوف المصبوغ، ولا يقال عهن إلاّ للمصبوغ. قال الحسن: كالصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والمعنى أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كالعهن} كالصوف المصبوغ ألواناً، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وطيرت في الجو: أشبهت العهن المنقوش إذا طيرته الريح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والعِهن: الصوف المصبوغ، قيل المصبوغ مطلقاً، وقيل المصبوغ ألواناً مختلفة وهو الذي درج عليه الراغب والزمخشري.
{وتكون الجبال كالعهن المنفوشِ} فإيثار العهن بالذكر لإِكمال المشابهة لأن الجبال ذات ألوان قال تعالى: {ومن الجبال جُدد بيضٌ وحُمْرٌ مختلف ألوانها} [فاطر: 27]. وإنما تكون السماء والجبال بهاته الحالة حين ينحلّ تماسك أجزائهما عند انقراض هذا العالم والمصيرِ إلى عالم الآخرة.
" وتكون الجبال كالعهن " أي كالصوف المصبوغ . ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا . وقال الحسن : " وتكون الجبال كالعهن " وهو الصوف الأحمر ، وهو أضعف الصوف . ومنه قول زهير :
كأنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كل مَنْزِل *** نزلنَ بهِ حبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِ{[15345]}
الفتات القطع . والعهن الصوف الأحمر ، واحده عهنة . وقيل : العهن الصوف ذو الألوان ، فشبه الجبال به في تلونها ألوانا . والمعنى : أنها تلين بعد الشدة ، وتتفرق بعد الاجتماع . وقيل : أول ما تتغير الجبال تصير رَمْلاً مَهِيلاً{[15346]} ، ثم عهنا منفوشا ، ثم هباء منبثا .
{ وتكون الجبال } التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها { كالعهن * } أي الصوف المصبوغ ألواناً المنقوش ، تطيره الريح كالهباء ، وذلك لأن الجبال في أصلها متلونة كما قال تعالى{ ومن الجبال جدد بيض وحمر }[ فاطر : 27 ] الآية ، قال البغوي{[68307]} : ولا يقال عهن إلا للمصبوغ ، قال : وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء{[68308]} منثوراً - انتهى .