كذلك وجههم إلى كتاب الكون المفتوح : ( ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ? وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ? ) . . والسماوات السبع لا يمكن حصرها في مدلول مما تقول به الفروض العلميه في التعريف بالكون . فهي كلها مجرد فروض . إنما وجه نوح قومه إلى السماء وأخبرهم - كما علمه الله - أنها سبع طباق . فيهن القمر نور وفيهن الشمس سراج . وهم يرون القمر ويرون الشمس ، ويرون ما يطلق عليه اسم السماء . وهو هذا الفضاء ذو اللون الأزرق . أما ما هو ? فلم يكن ذلك مطلوبا منهم . ولم يجزم أحد إلى اليوم بشيء في هذا الشأن . . وهذا التوجيه يكفي لإثارة التطلع والتدبر فيما وراء هذه الخلائق الهائلة من قدرة مبدعة . . وهذا هو المقصود من ذلك التوجيه .
سماوات طباقا : متطابقة بعضها فوق بعض ، كالقباب من غير مماسة .
نورا : منوّرا لوجه الأرض في الظلام .
الشمس سراجا : مصباحا مضيئا يمحو الظلام .
15 ، 16- ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا* وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا .
ألم تشاهدوا بأعينكم نعم الله تعالى فوقكم : هذه السماوات الممتدة امتدادا بعيدا ، وهي محكمة البناء ، وأيضا متطابقة ، كل سماء فوق الأخرى ، وكل سماء طبق الأخرى أيضا من غير مماسة ، وهي في غاية الإحكام والإتقان .
قال تعالى : ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت . . . ( الملك : 3 ) .
وقد جعل الله القمر نورا يضيء الليل ، ويمكّن الناس من أداء مهامهم في البرّ والبحر والجوّ .
وجعله متدرجا ، فيبدأ هلالا صغيرا ، ثم يكبر إلى أن يصير بدرا كامل الاستدارة ، ثم يتناقص حتى يعود هلالا صغيرا ، ثم يستتر ليلة أو ليلتين ، وذلك لنعرف عدد السنين والحساب .
قال تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج . . . ( البقرة : 189 ) .
وجعل الله الشمس والقمر سراجا مضيئا يستضيء به أهل الدنيا ، والسراج ما كان ضوءه من ذاته كالشمس ، والمنير ما استمد نوره من غيره كالقمر ، وهذا من إعجاز القرآن ، أنه عبّر الشمس بالسراج ، وعن القمر بالنور .
وقد تقرر في علم الفلك أن نور الشمس ذاتي فيها ، ونور القمر عرضي مكتسب من نور الشمس ، فسبحان الذي أحاط بكل شيء علما ، وقد أنزل هذا القرآن على نبي أمّيّ ، وأنزله بهذه الدّقة التي تبين أنه ليس من تأليف بشر ، ولكنه تنزيل من حكيم عليم .
ونحو الآية قوله تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء نورا وقدّره ، منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصّل الآيات لقوم يعلمون . ( يونس : 5 ) .
قوله تعالى : " ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا " ذكر لهم دليلا آخر ، أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا ، فهو الذي يجب أن يعبد ومعنى " طباقا " بعضها فوق بعض ، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب ، قاله ابن عباس والسدي . وقال الحسن : خلق الله سبع سموات طباقا على سبع أرضين ، بين كل أرض وأرض ، وسماء وسماء خلق وأمر . وقوله : " ألم تروا " على جهة الإخبار لا المعاينة ، كما تقول : ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا . وطباقا " نصب على أنه مصدر ، أي مطابقة طباقا . أو حال بمعنى ذات طباق ، فحذف ذات وأقام طباقا مقامه .
ولما كان هذا واضحاً{[68723]} ولكنهم قوم لد ، لا يردهم إلا الشمس المنيرة في وقت الظهيرة ، ذكرهم - بعد التذكير{[68724]} بما في أنفسهم - بما هو أكبر من ذلك من آيات الآفاق وقسمها إلى علوي وسفلي ، وبدأ بالأنفس لأنها مع شرفها أقرب منظور إليه لهم ، وثنى بالعلوي لأنه يليها في الشرف ووضوح الآيات ، فقال : دالاًّ{[68725]} على القدرة على البعث والجزاء بالثواب والعقاب : { ألم تروا } أي أيها القوم .
ولما كان تأمل الكيفيات يحتاج{[68726]} إلى دقة وتوقف على{[68727]} عجائب ولطائف تؤذن قطعاً بأن{[68728]} فاعلها لا يعجزه شيء ، قال منكراً عليهم عدم التأمل : { كيف خلق الله } أي الذي له العلم التام والقدرة البالغة والعظمة الكاملة { سبع سماوات } هي في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة ، يعرف كونها سبعاً{[68729]} بما فيها من الزينة .
ولما كانت المطابقة بين المتقابلات{[68730]} في غاية الصعوبة لا يكاد يقدر عليها من جميع الوجوه أحد ، قال : { طباقاً * } أي متطابقة بعضها فوق بعض وكل واحدة في التي تليها محيطة بها " ما لها من فروج " لا يكون تمام المطابقة إلا كذلك بالإحاطة من كل جانب .
قوله : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا } ذلك تنبيه من الله للأذهان لكي تنظر في الآفاق وفي الكون فتتفكر وتتدبر ما فيه من عجائب الخلق المستمسك المتّسق . الخلق المحكم المتكامل المتين . فقد خلق الله سبع سموات بعضها فوق بعض وقد جعلهن في غاية العظمة والقوة والاتساع و الإحكام . وفي ذلك برهان ظاهر لكل ذي عقل على قدرة الصانع الحكيم .