( قل : إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ) . . يؤمر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يتجرد ، ويؤمر أن ينفض يديه من كل ادعاء لشيء هو من خصائص الله الواحد الذي يعبده ولا يشرك به أحدا . فهو وحده الذي يملك الضر ويملك الخير . ويجعل مقابل الضر الرشد ، وهو الهداية ، كما جاء التعبير في مقالة الجن من قبل : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) . . فيتطابق القولان في اتجاههما وفي ألفاظهما تقريبا ، وهو تطابق مقصود في القصة والتعقيب عليها ، كما يكثر هذا في الأسلوب القرآني . .
وبهذا وذلك يتجرد الجن - وهو موضع الشبهة في المقدرة على النفع والضر - ويتجرد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وتتفرد الذات الإلهية بهذا الأمر . ويستقيم التصور الإيماني على هذا التجرد الكامل الصريح الواضح .
21- قل إني لا أملك لكم ضرّا ولا رشدا .
إنه التّجرّد الكامل ، وبيان وظيفته صلى الله عليه وسلم ، وهي الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة ، أمّا الهداية أو الغواية ، فذلك بيد الله وحده ، الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وييسر الهداية للمتقين ، ويسلب الهدى عن الضالين .
وفي الحديث الشريف : ( أفلا نتكل يا رسول الله ) ؟
أي : أفلا نعتمد على أنّ كل إنسان قد حدد مصيره إلى الجنة أو إلى النار ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، إن الله عز وجل يقول : فأما من أعطى واتقى* وصدّق بالحسنى* فسنيسّره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذّب بالحسنى* فسنيسّره للعسرى . viii ( الليل : 5-10 ) .
وقوله تعالى : قل إني لا أملك لكم ضرّا ولا رشدا .
أي : إنما أنا عبد من عباد الله ، ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم ، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل . اه .
ولما كان السامع ربما قال : ما له هو{[69217]} لا يهلكهم أو{[69218]} يدعو ربه في دفع المتلبدين عليه عنه بالإهلاك أو{[69219]} التوبة والمتابعة ، أمره بما يبين عظمة ربه وأنه لا يفعل إلا ما يريد بقوله مبيناً أنه يستحيل عليه{[69220]} الصلاة والسلام ما{[69221]} يستحيل على جميع الممكنات من أن يؤثر في شيء بنفسه أو يخالف ربه : { قل } أي لهؤلاء الذين خالفوك ، وأكد فطماً لمن ربما اعتقد - لكثرة ما يرى من الكرامات - أنه مهما أراده فعله الله له{[69222]} : { إني لا أملك } أي الآن ولا بعد { لكم } بنفسي من غير إقدار{[69223]} الله لي لأنه لا مؤثر {[69224]}في شيء{[69225]} من الأشياء إلا الله سبحانه وتعالى .
ولما كان المقام لدفع شرهم عنه ، قال : { ضراً } فأفهم ذلك " ولا نفعاً ولا غياً " { ولا رشداً * } أي صواباً وسداداً . فالآية من الاحتباك وهو ظاهر على هذا التقدير ، قال أبو حيان{[69226]} : فحذف من كل ما يدل{[69227]} مقابله عليه - انتهى . ويجوز أن يكون تقديره : لا أملك ضراً لأني لا أملك لكم إضلالاً ولا أملك لكم{[69228]} رشداً فلا أملك لكم نفعاً ، فإنه لا نفع في غير الرشاد ، ولا ضر في غير الضلال ، فقبح الله ابن عربي الطائي الذي يقول في فصوصه : إن الضلال أهدى من الهدى ، فلا أسخف{[69229]} عقلاً منه إلا من تبعه - عليهم {[69230]}لعنة الله وخزيه{[69231]} ، فإن قالوا : إنه أراد غير ما يفهم من ظاهر اللفظ فقل : كذبتم فقد بين مراده إطباقكم على الفسق والفجور لا يكاد يجد منكم من يتهم بمذهبه وهو يتقيد{[69232]} بشرع ، ولم تخرج الآية بهذا عن الاحتباك ، فإن ذكر الضر أولاً دل على حذف النفع ثانياً ، وذكر الرشد ثانياً دل على حذف الضلال أولاً .