مضى مثل الأولين : سبق في القرآن أحاديث إهلاكهم ، أو سنة الله هلاك الظالمين .
8- { فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين } .
فأهلكنا المكذبين للرسل ، وقد كانوا أشد قوة من أهل مكة ، وتلك سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير ، وهي أن يمهل المكذبين وقتا ما ، علّهم أن يعتبروا أو يتوبوا ، وقد أعذر من أنذر ، فإذا نزل العذاب كان قاصما للظهور .
قال تعالى : { إن بطش ربك لشديد } . ( البروج : 12 ) .
وقال تعالى : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } . ( محمد : 13 ) .
وقال سبحانه وتعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصبّ عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد } . ( الفجر : 6-14 ) .
أي : سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم في تكذيبهم وتعذيبهم ، وما مثلناه بهم ، أي : فليتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم . اه .
وجاء في تفسير ابن كثير ما يأتي :
قال مجاهد : { ومضى مثل الأولين } . سنتهم .
وقال غيرهما : عبرتهم ، أي : جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم ، كقوله تعالى : { فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين } . ( الزخرف : 56 ) .
وكقوله جلت عظمته : { سنة الله التي قد خلت في عباده . . . } ( غافر : 85 ) .
" فأهلكنا أشد منهم بطشا " أي قوما أشد منهم قوة . والكناية في " منهم " ترجع إلى المشركين المخاطبين بقوله : " أفنضرب عنكم الذكر صفحا " فكنى عنهم بعد أن خاطبهم . و " أشد " نصب على الحال . وقيل : هو مفعول ، أي فقد أهلكنا أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم . " ومضى مثل الأولين " أي عقوبتهم . عن قتادة . وقيل : صفحة الأولين ، فخبرهم بأنهم أهلكوا على كفرهم ، حكاه النقاش والمهدوي . والمثل : الوصف والخبر .
{ أفنضرب عنكم الذكر صفحا } الهمزة للإنكار والمعنى أنمسك عنكم الذكر ونضرب من قولك : أضربت عن كذا إذا تركته والذكر يراد به : القرآن أو التذكير والوعظ وصفحا فيه وجهان : أحدهما : أنه بمعنى : الإعراض ، تقول : صفحت عنه إذا أعرضت عنه فكأنه قال : أنترك تذكيركم إعراضا عنكم ، إعراب { صفحا } على هذا مصدر من المعنى : أو مفعول من أجله أو مصدر في موضع الحال .
والآخر : أن يكون بمعنى العفو والغفران ، فكأنه يقول : أنمسك عنكم الذكر عفوا عنكم وغفرانا لذنوبكم وإعراب صفحا على هذا مفعول من أجله ومصدر في موضع الحال .
{ أن كنتم قوما مسرفين } قرئ بكسر الهمزة على الشرط والجواب في الكلام الذي قبله وقرئ بالفتح على أنه مفعول من أجله .
{ أشد منهم بطشا } الضمير لقريش وهم المخاطبون بقوله : { أن كنتم قوما مسرفين } [ الزخرف : 5 ] ، فإن قيل : كيف قال : أن كنتم على الشرط بحرف أن التي معناها : الشك ومعلوم أنهم كانوا مسرفين ، فالجواب : أن في ذلك إشارة إلى توبيخهم على الإسراف وتجهيلهم في ارتكابه فكأنه شيء لا يقع من عاقل فلذلك وضع حرف التوقع في موضع الواقع .
{ ومضى مثل الأولين } أي : تقدم في القرآن ذكر حال الأولين وكيفية إهلاكهم لما كفروا .
ولما كان الاستهزاء برسول الملك استهزاء به ، وكانت المماليك إنما تقام بالسياسة بالرغبة والرهبة وإيقاع الهيبة حتى يتم الجلال وتثبت العظمة ، فكان لذلك لا يجوز في عقل عاقل أن يقر ملك على الاستهزاء به ، سبب عن الاستهزاء بالرسل الهلاك فقال : { فأهلكنا } وكان الأصل الإضمار ، ولكنه أظهر الضمير بياناً لما كان في الأولين من الضخامة صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه صلى الله عليه وسلم تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم فقال : { أشد منهم } أي من قريش الذين يستهزئون بك { بطشاً } من جهة العد والعدد والقوة والجلد فما ظنهم بأنفسهم وهم أضعف منهم إن تمادوا في الاستهزاء برسول الملك الأعلى .
ولما ذكر إهلاك أولئك ذكر أن حالهم عند الإهلاك كان أضعف حال ليعتبر هؤلاء فقال : { ومضى مثل الأولين * } أي وقع إهلاكهم الذي كان مثلاً يتمثل به من بعدهم ، وذكر أيضاً في القرآن الخبر عنه بما حقه أن يشير مشير المثل بل ذكر أن من عبده الأولون واعتمدوا علهي مثل بيت العنكبوت فكيف بالأولين أنفسهم فكيف بهؤلاء ، فإن الحال أدى إلى أنهم أضعف من الأضعف من بيت العنكبوت فلينتظروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك ، بأيدي جند الله من البشر أو الملائكة .