ثم يعرض الصفحة الأخرى . صفحة الأبرار . على العهد بطريقة القرآن في عرض الصفحتين متقابلتين في الغالب ، لتتم المقابلة بين حقيقتين وحالين ونهايتين :
( كلا ! إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون ? كتاب مرقوم ، يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم ، على الأرائك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . ومزاجه من تسنيم . عينا يشرب بها المقربون ) . .
وكلمة( كلا )تجيء في صدر هذا المقطع زجرا عما ذكر قبله من التكذيب في قوله : ( ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون ) . . ويعقب عليه بقوله : ( كلا )ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد .
فإذا كان كتاب الفجار في( سجين )فإن كتاب الأبرار في( عليين ) . . . والأبرار هم الطائعون الفاعلون كل خير . وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد . .
ولفظ( عليين )يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن( سجين )يفيد الانحطاط والسفول .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَلاّ إِنّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلّيّونَ * كِتَابٌ مّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرّبُونَ * إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : كَلاّ إنّ كتابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ والأبرار : جمع برّ ، وهم الذين برّوا الله بأداء فرائضه ، واجتناب محارمه . وقد كان الحسن يقول : هم الذين لايؤذون شيئا حتى الذّرّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا هشام ، عن شيخ ، عن الحسن ، قال : سُئل عن الأبرار ، قال : الذين لا يؤذون الذرّ .
حدثنا إسحاق بن زيد الخطابيّ ، قال : حدثنا الفِريابيّ ، عن السريّ بن يحيى ، عن الحسن ، قال : الأبرار : هم الذين لا يؤذون الذرّ .
وقوله : لَفِي عِلّيّينَ اختلف أهل التأويل في معنى عليين ، فقال بعضهم : هي السماء السابعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني جرير بن حازم ، عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن هلال بن يِساف ، قال : سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر عن العِليين ، فقال كعب : هي السماء السابعة ، وفيها أرواح المؤمنين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله ، يعني العَتَكِي ، عن قتادة ، في قوله إنّ كِتابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ قال : في السماء العليا .
حدثني عليّ بن الحسين الأزديّ ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أُسامة بن زيد ، عن أبيه ، في قوله : إنّ كِتابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ قال : في السماء السابعة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عِلّيّونَ قال : السماء السابعة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَفِي عِلّيّينَ : في السماء عند الله .
وقال آخرون : بل العِلّيون : قائمة العرش اليمنى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة كَلاّ إنّ كِتابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ ذُكر لنا أن كعبا كان يقول : هي قائمة العرش اليمنى .
حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، قال : حدثنا مُطَرّف بن مازن ، قاضي اليمن ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : إنّ كِتابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ قال : عِلّيون : قائمة العرش اليمنى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فِي عِلّيّينَ قال : فوق السماء السابعة ، عند قائمة العرش اليمنى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّي ، عن حفص ، عن شمر ، عن عطية ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فسأله ، فقال : حدثني عن قول الله إنّ كِتابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ . . . الاَية ، فقال كعب : إن الروح المؤمنة إذا قُبِضت ، صُعد بها ، ففُتحت لها أبواب السماء ، وتلقّتها الملائكة بالبُشرَى ، ثم عَرَجوا معها حتى ينتهوا إلى العرش ، فيخرج لها من عند العرش رَقّ ، فيُرقَم ، ثم يختم بمعرفتها النجاة بحساب يوم القيامة ، وتشهد الملائكة المقرّبون .
وقال آخرون : بل عُنِيَ بالعليين : الجَنّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنّ كِتابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ قال : الجنة .
وقال آخرون : عند سِدْرة المنتهى . ذكر من قال ذلك :
حدثني جعفر بن محمد البزوريّ من أهل الكوفة ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن الأجلح ، عن الضحاك قال : إذا قبض رُوح العبد المؤمن عُرج به إلى السماء ، فتنطلق معه المقرّبون إلى السماء الثانية ، قال الأجلح : قلت : وما المقرّبون ؟ قال : أقربهم إلى السماء الثانية ، فتنطلق معه المقرّبون إلى السماء الثالثة ، ثم الرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ، حتى تنتهي به إلى سِدْرة المنتهى . قال الأجلح : قلت للضحاك : لِمَ تسمى سِدْرة المنتهى ؟ قال : لأنه يَنْتهي إليها كلّ شيء من أمر الله لا يعدوها ، فتقول : ربّ عبدك فلان ، وهو أعلم به منهم ، فيبعث الله إليهم بصَكّ مختوم يؤمّنه من العذاب ، فذلك قول الله : كَلاّ إنّ كِتاب الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ وَما أدْرَاكَ ما عِلّيّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المُقَرّبُونَ .
وقال آخرون : بل عُنِي بالعِلّيين : في السماء عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ كِتابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلّيّينَ يقول : أعمالُهم في كتاب عند الله في السماء .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن كتاب الأبرار في عِليين والعليون : جمع ، معناه : شيء فوق شيء ، وعلوّ فوق علوّ ، وارتفاع بعد ارتفاع ، فلذلك جُمعت بالياء والنون ، كجمع الرجال ، إذا لم يكن له بناء من واحده واثنيه ، كما حُكِي عن بعض العرب سماعا : أطْعَمَنا مَرَقَة مَرَقَينِ : يعن اللحم المطبوخ كما قال الشاعر :
قَدْ رَوِيَتْ إلاّ الدّهَيْدِ هِينا *** قُلَيّصَاتٍ وأُبَيْكِرِينَا
فقال : وأبيكرينا ، فجمعها بالنون إذ لم يقصد عددا معلوما من البكارة ، بل أراد عددا لا يحدّ آخره ، وكما قال الاَخر :
فأصْبَحَتِ المَذَاهِبُ قَد أذَاعَتْ *** بِها الإعْصَارُ بَعْدُ الْوَابِلِينا
يعني : مطرا بعد مطر غير محدود العدد ، وكذلك تفعل العرب في كلّ جمع لم يكن بناء له من واحده واثنيه ، فجمعه في جميع الإناث ، والذكران بالنون على ما قد بيّنا ، ومن ذلك قولهم للرجال والنساء : عشرون وثلاثون . فإذا كان ذلك كالذي ذكرنا ، فبّينٌ أن قوله : لَفِي عِلّيّينَ معناه : في علوّ وارتفاع ، في سماء فوق سماء ، وعلوّ فوق علوّ ، وجائز أن يكون ذلك إلى السماء السابعة ، وإلى سدرة المنتَهى ، وإلى قائمة العرش ، ولا خبر يقطع العذر بأنه معنيّ به بعضُ ذلك دون بعض .
والصواب أن يقال في ذلك ، كما قال جلّ ثناؤه : إن كتاب أعمال الأبرار لفي ارتفاع إلى حدّ قد علم الله جلّ وعزّ منتهاه ، ولا علم عندنا بغايته ، غير أن ذلك لا يَقْصُر عن السماء السابعة ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.