تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَٰلَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ لَّوۡ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (114)

وأما هم ففي شغل شاغل  وعذاب مذهل ، عن معرفة عدده ، فقال لهم : { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا } سواء عينتم عدده ، أم لا { لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَٰلَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ لَّوۡ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (114)

قوله : { قال إن لبثتم إلا قليلاً } قرأه الجمهور كما قرأوا الذي قبله فهو حكاية للمحاورة فلذلك لم يعطف فعل { قال إن لبثتم إلا قليلاً } وهي طريقة حكاية المحاورات كما في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) . وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بصيغة الأمر كالذي قبله .

والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه ليظهر لهم خطؤهم إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها .

وانتصب { عدد سنين } على التمييز ل { كم } الاستفهامية والتمييز إنما هو { سنين } . وإضافة لفظ { عدد } إليه تأكيد لمضمون ( كم ) لأن ( كم ) اسم استفهام عن العدد فذكر لفظ { عدد } معها تأكيد لبعض مدلولها .

وجوابهم يقتضي أنهم تحققوا أنهم كانوا في الأرض وأنهم لم يتذكروا طول مدة مكثهم على تفاوت فيها . والظاهر أن المراد بقولهم { يوماً أو بعض يوم } أنهم قدروا مدة مكثهم في باطن الأرض بنحو يوم من الأيام المعهودة لديهم في الدنيا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الروم ( 55 ) { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة . } ولم يعرج المفسرون على تبيين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره في الظاهر . والذي لاح لي في ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضي جيء به في قالب السؤال عن مدة مكثهم في الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياءً وهو ما كانوا ينكرونه ، وكناية عن خطأ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات .

وهي حالة لا تقتضي مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم الحياة بعد أن بقوا قروناً كثيرة ، فذلك أدل وأظهر في سعة القدرة الإلهية وأدخل في إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانها فيما هو أكثر مما قدروه من علة استحالة عود الحياة إليهم .

وقد دل على هذا قوله في آخر الآية { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] وقد ألجأهم الله إلى إظهار اعتقادهم قِصرَ المدة التي بقوها زيادة في تشويه خطإهم فإنهم لمّا أحسوا من أنفسهم أنهم صاروا أحياء كحياتهم الأولى وعاد لهم تفكيرهم القديم الذي ماتوا عليه ، وكانوا يتوهمون أنهم إذا فنيت أجسادهم لا تعود إليهم الحياة أوهمهم كمالُ أجسادهم أنهم ما مكثوا في الأرض إلا زمناً يسيراً لا يتغير في مثله الهيكل الجثماني فبنوا على أصل شبهتهم الخاطئة خطأ آخر .

وأما قولهم : { فسئل العادين } فهو اعتراف بأنهم لم يضبطوا مدة مكثهم فأحالوا السائل على من يضبط ذلك من الذين يظنونهم لم يزالوا أحياء لأنهم حسبوا أنهم بعثوا والدنيا باقية وحسبوا أن السؤال على ظاهره فتبرأوا من عهدة عدم ضبط الجواب .

وأما رد الله عليهم بقوله : { إن لبثتم إلا قليلاً } فهو يؤذن بكلام محذوف على طريقة دلالة الاقتضاء ، لأنهم قد لبثوا أكثر من يوم أو بعض يوم بكثير فكيف يجعل قليلاً ، فتعين أن قوله : { إن لبثتم إلا قليلاً } لا يستقيم أن يكون جواباً لكلامهم إلا بتقدير : قال بل لبثتم قروناً ، كما في قوله في الذي مر على قرية { فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام } [ البقرة : 259 ] . ولذلك تعين أن يكون التقدير : قال بل لبثتم قروناً ، وإن لبثتم إلا قليلاً فيما عند الله { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] .

وقرينة ذلك ما تفيده ( لو ) من الامتناع في قوله : { لو أنكم كنتم تعلمون } أي لو كنتم تعلمون لعلمتم أنكم ما لبثتم إلا قليلاً ، فيقتضي الامتناع أنهم ما علموا أنهم لبثوا قليلاً مع أن صريح جوابهم يقتضي أنهم علموا لبثاً قليلاً ، فالجمع بين تعارض مقتضى جوابهم ومقتضى الرد عليهم إنما يكون باختلاف النسبة في قلة مدة المكث إذا نسبت إلى ما يراعى فيها ، فهي إذا نسبت إلى شبهتهم في إحالة البعث كانت طويلة وقد وقع البعث بعدها فهذا خطأ منهم ، وهي إذا نسبت إلى ما يترقبهم من مدة العذاب كانت مدة قليلة وهذا إرهاب لهم .