{ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } وهذا فيه تقرير إحاطة علمه بالمعلومات كلها ، جليها وخفيها ، ظاهرها وباطنها ، ومن جملة ذلك الأجنة في البطون التي لا يدركها بصر المخلوقين ، ولا ينالها علمهم ، وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير ، ويقدرها بكل تقدير ، فلهذا قال { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}: شيء من أهل السماء، ولا من أهل الأرض، كل ذلك عنده...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الله لا يخفى عليه شيء وهو في الأرض، ولا شيء وهو في السماء. يقول: فيكف يخفى عليّ يا محمد، وأنا علام جميع الأشياء، ما يُضَاهَى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى جران في عيسى ابن مريم في مقالتهم التي يقولونها فيه؟... قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى إذ جعلوه ربا وإلها، وعندهم من علمه غير ذلك، غرّةً بالله وكفرا به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء} هو وعيد، كأنه، والله أعلم، قال: لا يخفى عليه ما في السموات وما في الأرض من الأمور المستورة الخفية، فيكف تخفى عليه أعمالكم وأفعالكم التي هي ظاهرة عندكم؟ ويحتمل: إذا لم يخف عليه ما بطن، وما خفق في الأصلاب والضمائر والأرحام، فيكف تخفى أقوالكم وأفعالكم، وهي ظاهرة؟ ألا ترى أنه قال: {هو الذي يصوركم في الأرحام؛ } [آل عمران: 6] إذ علم ما في الأرحام، وصورها على ما شاء، وكيف شاء؟ وهم {في ظلمات ثلاث} [الزمر: 6]...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما ذكر الله تعالى الوعيد على الاخلال بمعرفته مع نصب الادلة على توحيده وصفاته اقتضى أن يذكر أنه لا يخفى عليه شيء في الارض، ولا في السماء، فيكون في ذلك تحذير من الاغترار بالاستسرار بمعصيته، لأن المجازي لا تخفى عليه خافية، فجرى ذلك موصولا بذكر التوحيد في أول السورة، لأنه من الصفات الدالة على ما لا تحق إلا له. فان قيل لم قال: (لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) ولم يقل لا يخفى عليه شيء على وجه من الوجوه إذ كان أشد مبالغة؟ قيل: ليعلمنا أن الغرض علم ما يستسر به في الارض أو في السماء. ولأن الإفصاح بذكر ذلك أعظم في النفس وأهول في الصدر مع الدلالة على أنه عالم بكل شيء إلا أنه على وجه التصرف في العبارة عن وجوه الدلالة. فإن قيل: لم قال "لا يخفى عليه شيء "ولم يقل عالم بكل شيء في الارض والسماء؟ قيل لان الوصف بأنه "لا يخفى عليه شيء" يدل على أنه يعلمه من كل وجه يصح أن يعلم منه مع ما فيه من التصرف في العبارة، وإنما قلنا: لا يخفى عليه شيء من حيث كان عالما لنفسه. والعالم للنفس يجب أن يعلم كل ما يصح أن يكون معلوما. وما يصح أن يكون معلوما لانهاية له، فوجب أن يكون عالما به وإنما يجوز أن يعلم الشيء من وجه دون وجه، ويخفى عليه شيء من وجه دون وجه من كان عالما بعلم يستفيده: -العلم حالا بعد حال -. فأما من كان عالما لنفسه، فلا يجوز أن يخفى عليه شيء بوجه من الوجوه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا يتنفس عبدٌ نَفَساً إلا والله سبحانه وتعالى مُحْصِيه. ولا تحصل في السماء والأرض ذرة إلا وهو سبحانه مُحْدِثهُ ومُبْدِيه. ولا يكون أحد بوصف ولا نعت إلا هو متوليه. هذا على العموم، فأمَّا على الخصوص: فلا رَفَعَ أحدٌ إليه حاجةً إلا وهو قاضيها، ولا رجع أحدٌ إليه في نازلة إلا وهو كافيها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء} في العالم، فعبر عنه بالسماء والأرض، فهو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن، وهو مجازيهم عليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... هذه الآية خبر عن علم الله تعالى بالأشياء على التفصيل، وهذه صفة لم تكن لعيسى ولا لأحد من المخلوقين، ثم أخبر عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات، وهذا أمر لا ينكره عاقل، ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه، ولا ينكر أن عيسى عليه السلام من المصورين في الأرحام، فهذه الآية تعظيم لله تعالى في ضمنها الرد على نصارى نجران، وفي قوله: {إن الله لا يخفى عليه شيء} وعيد ما لهم...
اعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين: الاحتمال الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم، وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين: أحدهما: أن يكون عالما بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية. والثاني: أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها. والأول: لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات. والثاني: لا يتم إلا إذا كان قادرا على جميع الممكنات. فقوله: {إن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء} إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات، فحينئذ يكون عالما لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات، لا يشغله سؤال عن سؤال، ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} شيء نكرة في سياق النفي، فتعم، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء، إذ هما أعظم ما نشاهده. والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم، وفي ذلك ردّ على النصارى، إذ شبهتهم في ادعاء إلهية عيسى كونه: يخبر بالغيوب، وهذا راجع إلى العلم، وكونه: يحيي الموتى، وهو راجع إلى القدرة. فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء، فلا يخفي عليه شيء، ولا يلزم من كون عيسى عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالماً بجميع المعلومات، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يلزم من كون عيسى قادراً على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلهاً، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادراً على تركيب الصور وإحيائها، بل إنباؤه ببعض المغيبات، وخلقه وأحياؤه بعض الصور، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي، وإقداره تعالى له على ذلك، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها، وأمثالها، على أيدي رسله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الله} بما له من صفات الكمال التي منها القيومية {لا يخفى عليه شيء} وإن دق، ولما كان تقريب المعلومات بالمحسوسات أقيد في التعليم والبعد عن الخفاء قال وإن كان علمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بشيء: {في الأرض ولا في السماء} أي ولا هم يقدرون على أن يدعوا في عيسى عليه الصلاة والسلام مثل هذا العلم، بل في إنجيلهم الذي بين أظهرهم الآن في حدود السبعين والثمانمائة التصريح بأنه يخفى عليه بعض الأمور... ثم أشار قوله تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء} إلى ما تقدم أي في البقرة من تفصيل أخبارهم. فكان الكلام في قوة أن لو قيل: أيخفي عليه مرتكبات العباد! وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره انتهى...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{إنّ الله لا يخفى عليه شيء} كائن {في الأرض ولا في السماء} لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئيّ. فإن قيل: لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب: بأنه تعالى إنما خصهما؛ به لأنّ البصر لا يتجاوزهما. فإن قيل: لم قدّم الأرض على السماء؟ أجيب: بأنها إنما قدمت ترقياً من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حياً...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء فِي الأرض وَلاَ فِي السماء} استئنافُ كلامٍ سيق لبيان سعةِ علمِه تعالى وإحاطتِه بجميع ما في العالم من الأشياء التي من جملتها ما صدر عنهم من الكفر والفسوقِ سراً وجهراً إثرَ بيانِ كمالِ قدرتِه وعزته، تربيةً لما قبله من الوعيد وتنبيهاً على أن الوقوفَ على بعض المغيبات كما كان في عيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبةِ الصفاتِ الإلهية وإنما عُبّر عن علمه عز وجل بما ذُكر بعدم خفائِه عليه كما في قوله سبحانه: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شيء فَي الأرض وَلاَ فِي السماء} [إبراهيم، الآية 38] إيذاناً بأن علمَه تعالى بمعلوماته وإن كانت في أقصى الغايات الخفيةِ ليس من شأنه أن يكون على وجهُ يمكن أن يقارِنه شائبةُ خفاءٍ بوجه من الوجوه كما في علوم المخلوقين، بل هو غاية في الوضوحِ والجلاءِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي صدد التهديد بالعذاب والانتقام يؤكد لهم علم الله الذي لا يند عنه شيء، فلا خفاء عليه ولا إفلات منه: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء).. وتوكيد العلم المطلق الذي لا يخفى عليه شيء، وإثبات هذه الصفة لله -سبحانه- في هذا المقام.. هذا التوكيد يتفق أولا مع وحدانية الألوهية والقوامة التي افتتح بها السياق. كما يتفق مع التهديد الرعيب في الآية السابقة.. فلن يفلت "شيء "من علم الله (في الأرض ولا في السماء) بهذا الشمول والإطلاق. ولن يمكن إذن ستر النوايا عليه، ولا إخفاء الكيد عنه. ولن يمكن كذلك التفلت من الجزاء الدقيق، ولا التهرب من العلم اللطيف العميق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف يتنزّل منزلة البيان لوصف الحي، لأنّ عموم العلم يبيِّن كمال الحياة. وجيء ب (شيء) هنا لأنّه من الأسماء العامة. وقوله: {في الأرض ولا في السماء} قصد منه عمومُ أمكنة الأشياء، فالمراد من الأرض الكرة الأرضية: بما فيها من بحار، والمراد بالسماء جنس السموات: وهي العوالم المتباعدة عن الأرض. وابتدئ في الذكر بالأرض ليتسنَّى التدرّج في العطف إلى الأبعد في الحكم؛ لأنّ أشياء الأرض يعلم كثيراً منها كثيرٌ من الناس، أما أشياء السماء فلا يعلم أحد بعضها فضلاً عن علم جميعها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} هذه الجملة السامية تفيد تمام إحاطة الله تعالى في علمه، فهو سبحانه و تعالى يتجلى له كل شيء، و لو كان خافيا عن الناس أومن شأنه الخفاء، و لذلك جاء التعبير عن العلم الكامل، ببيان نفي الخفاء عليه سبحانه، و ذلك لأن العالم المحيط قد يخفى عليه شيء، لكن علم الله غير ذلك، فهو علم لا خفاء معه في شيء مطلقا، و إذا كان الله سبحانه و تعالى عليما بكل شيء لا يخفى عليه شيء فهو يعلم القلوب و ما تخفيه، و ما تكنه السرائر، و ما تكنه الضمائر، فهو يعلم البواعث على الكفر، و أنها ليست نقصا في الدليل، و لكنها مآرب الدنيا، و العصبية الجنسية و المذهبية، فليس الذين ينكرون ما جاء به محمد مخلصين في إنكارهم، بل هي لجاجة العناد، و جحود المستيقن. و ذكر سبحانه السماء و الأرض للإشارة إلى أن علمه قد وسع كل شيء، وسع السماوات و الأرض، و ليس الإنسان و ما تحدثه به نفسه إلا شيئا صغيرا في هذا الملكوت العظيم، و ذلك العالم بأرضه و سمائه. و أكد نفي الخفاء بتكرار "لا "في قوله تعالى: {و لا في السماء} فذكرها ثانيا تأكيد لأنه لا يخفى عليه شيء.
انظروا إلى خدمة الآية لكل الأغراض التي سبقتها؛ مادام قيُّوما وقائما بأمور الخلق، فلابد أن يعلم كل شيء عن الخلق، فلا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء. ومادام سيفرق بين الحق والباطل وينزل بالكفار عذاباً شديداً فلا يخفى عليه شيء. إن الآية تخدم كل الأغراض، وهو سبحانه يعلم كل الأغراض، فحين يقنن بقيوميته، فهو يقنن بلا استدراك عليه، وحين يخرج أحد عن منهجه لا يخفى عليه. إذن فالآية حصاد على التشريع وعلى الجزاء {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ}...