غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ} (5)

1

قوله سبحانه { إن الله لا يخفى عليه شيء } لما ذكر أنه حيّ قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ، وكونه كذلك يتوقف على مجموع أمرين : أن يكون عالماً بكميات حاجاتهم وكيفياتها وكلياتها وجزئياتها ، ثم أن يكون قادراً على ترتيبها . والأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات أشار إلى ذلك بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } والثاني لا يتأتى إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فأشار إليه بقوله { هو الذي يصوركم } ثم فيه لطيفة أخرى وهي أنه لما ادعى كمال عمله بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع ، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إلى ذلك ليس إلا الدليل العقلي فلا جرم قال { هو الذي يصوركم في ظلمات الأرحام } بهذه البنية العجيبة والتركيب الغريب من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، بعضها عظام ، وبعضها أوردة ، وبعضها شرايين ، وبعضها عضلات . ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال علمه لأن التركيب المحكم المتقن لا يصدر إلا عن العالم بتفاصيله . ثم إنه تعالى لما كان قيوماً بمصالح الخلق ومصالحهم قسمان : جسمانية وأشرفها تعديل المزاج وأشار إليها بقوله { هو الذي يصوركم } وروحانية وأشرفها إلى العلم فلا جرم أشار إلى ذلك بقوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } . ويحتمل أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها . وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى وعولوا في ذلك على نوعين من الشبهة : أحدهما يتعلق بالعلم وهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وذلك قوله تعالى :{ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم }[ آل عمران : 49 ] والثاني يتعلق بالقدرة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وليس للنصارى شبهة غير هاتين . فأزال شبهتهم الأولى بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } فمن المعلوم بالضرورة من أحوال عيسى أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات . فعدم إحاطته بجميع الأشياء فيه دلالة قاطعة على أنه ليس بإله ، ولكن إحاطته ببعض المغيبات لا تدل على كونه إلهاً لاحتمال أنه علم ذلك بالوحي أو الإلهام .

وأزال شبهتهم الثانية بقوله { هو الذي يصوركم } وذلك أن الإله هو الذي يقدر على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب ، ومعلوم أن عيسى لم يكن قادراً على الإحياء والإماتة بهذا الوجه . كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه . فإماتة بعض الأشخاص أو إحياؤه لا يدل على الإلهية لجواز كونه بإظهار الله تعالى المعجزة على يده ، والعجز على إماتة البعض أو إحيائه يدل على عدم الإلهية قطعاً ، وأما الإحياء والإماتة لجميع الحيوانات فيدل على الإلهية قطعاً . ثم إنّهم عدلوا عن المقدمات المشاهدية إلى مقدمات إلزامية وهو أنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فيكون ابناً لله . والجواب عنه بقوله أيضاً { هو الذي يصوركم } لأن هذا التصوير لما كان منه صفة فإن شاء صوره من نطفة الأب ، وإن شاء صوره ابتداء من غير أب . وأيضاً قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروحه ؟ وهذا يدل على أنه ابن لله . فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي ، محتمل للحقيقة والمجاز . وإذا ورد اللفظ بحيث يخالف الدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل ، أو تفويضه إلى علم الله وذلك قوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } الآية . فظهر أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة إلا وقد اشتملت هذه الآيات على دفعها والجواب عنها ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله { في الأرض ولا في السماء } مع أنه لو أطلق كان أبلغ ؟ قلت : الغرض تفهيم العباد كمال علمه وذلك عند ذكر السماوات والأرض أقوى لعظمتهما في الحس ، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ، وهذه فائدة ضرب الأمثلة في العلوم .

/خ11