قوله سبحانه { إن الله لا يخفى عليه شيء } لما ذكر أنه حيّ قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ، وكونه كذلك يتوقف على مجموع أمرين : أن يكون عالماً بكميات حاجاتهم وكيفياتها وكلياتها وجزئياتها ، ثم أن يكون قادراً على ترتيبها . والأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات أشار إلى ذلك بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } والثاني لا يتأتى إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فأشار إليه بقوله { هو الذي يصوركم } ثم فيه لطيفة أخرى وهي أنه لما ادعى كمال عمله بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع ، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إلى ذلك ليس إلا الدليل العقلي فلا جرم قال { هو الذي يصوركم في ظلمات الأرحام } بهذه البنية العجيبة والتركيب الغريب من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، بعضها عظام ، وبعضها أوردة ، وبعضها شرايين ، وبعضها عضلات . ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال علمه لأن التركيب المحكم المتقن لا يصدر إلا عن العالم بتفاصيله . ثم إنه تعالى لما كان قيوماً بمصالح الخلق ومصالحهم قسمان : جسمانية وأشرفها تعديل المزاج وأشار إليها بقوله { هو الذي يصوركم } وروحانية وأشرفها إلى العلم فلا جرم أشار إلى ذلك بقوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } . ويحتمل أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها . وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى وعولوا في ذلك على نوعين من الشبهة : أحدهما يتعلق بالعلم وهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وذلك قوله تعالى :{ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم }[ آل عمران : 49 ] والثاني يتعلق بالقدرة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وليس للنصارى شبهة غير هاتين . فأزال شبهتهم الأولى بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } فمن المعلوم بالضرورة من أحوال عيسى أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات . فعدم إحاطته بجميع الأشياء فيه دلالة قاطعة على أنه ليس بإله ، ولكن إحاطته ببعض المغيبات لا تدل على كونه إلهاً لاحتمال أنه علم ذلك بالوحي أو الإلهام .
وأزال شبهتهم الثانية بقوله { هو الذي يصوركم } وذلك أن الإله هو الذي يقدر على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب ، ومعلوم أن عيسى لم يكن قادراً على الإحياء والإماتة بهذا الوجه . كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه . فإماتة بعض الأشخاص أو إحياؤه لا يدل على الإلهية لجواز كونه بإظهار الله تعالى المعجزة على يده ، والعجز على إماتة البعض أو إحيائه يدل على عدم الإلهية قطعاً ، وأما الإحياء والإماتة لجميع الحيوانات فيدل على الإلهية قطعاً . ثم إنّهم عدلوا عن المقدمات المشاهدية إلى مقدمات إلزامية وهو أنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فيكون ابناً لله . والجواب عنه بقوله أيضاً { هو الذي يصوركم } لأن هذا التصوير لما كان منه صفة فإن شاء صوره من نطفة الأب ، وإن شاء صوره ابتداء من غير أب . وأيضاً قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروحه ؟ وهذا يدل على أنه ابن لله . فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي ، محتمل للحقيقة والمجاز . وإذا ورد اللفظ بحيث يخالف الدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل ، أو تفويضه إلى علم الله وذلك قوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } الآية . فظهر أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة إلا وقد اشتملت هذه الآيات على دفعها والجواب عنها ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله { في الأرض ولا في السماء } مع أنه لو أطلق كان أبلغ ؟ قلت : الغرض تفهيم العباد كمال علمه وذلك عند ذكر السماوات والأرض أقوى لعظمتهما في الحس ، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ، وهذه فائدة ضرب الأمثلة في العلوم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.