تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ} (48)

{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : بعد تلك السنين السبع المخصبات . { سَبْعٌ شِدَادٌ } أي : مجدبات جدا { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } أي : يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا . { إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ } أي : تمنعونه من التقديم لهن .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ} (48)

هذه الرؤيا من مَلك مصر مما قَدّر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسفَ ، عليه السلام ، من السجن مُعزَّزًا مكرما ، وذلك أن المَلك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتَعجَّب من أمرها ، وما يكون تفسيرها ، فجمع الكهنة والحُزَاة وكبراء دولته وأمراءه وقَصَّ عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا إليه بأن هذه { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ } أي : أخلاط اقتضت رؤياك هذه{[15192]} { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ } أي : ولو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط ، لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها . فعند ذلك تَذَكَّرَ ذلك الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين{[15193]} كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف ، من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : مدة - وقرأ بعضهم : " بعد أَمِةٍ " أي : بعد نسيان ، فقال للملك والذين جمعهم لذلك : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتأويل هذا المنام ، { فَأَرْسِلُونِ } أي : فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن . ومعنى الكلام : فبعثوا{[15194]} فجاء . فقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا } وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند ذلك ذكر له يوسف ، عليه السلام ، تعبيرها من غير تعنيف لذلك الفتى في نسيانه ما وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } أي{[15195]} يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، ففسر البقر بالسنين ؛ لأنها تثير الأرض التي تُسْتغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر ، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي : مهما استغللتم{[15196]} في هذه السبع السنين الخصب فاخزنوه في سنبله ، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه ، إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه ، لتنتفعوا في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المُحْل التي تعقب هذه السبع متواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي يأكلن السِّمان ؛ لأن سني{[15197]} الجَدْب يؤكل فيها ما جَمَعَوه في سني{[15198]} الخصب ، وهن السنبلات اليابسات .

وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ }

ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } أي : يأتيهم الغيث ، وهو المَطرُ ، وتُغل البلاد ، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم ، من زيت ونحوه ، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل{[15199]} فيه حلب اللبن أيضًا .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يحلبون .


[15192]:- في ت ، أ : "رؤيا في هذا".
[15193]:- في ت : "الذي".
[15194]:- في ت : "فبعثوه".
[15195]:- في ت : "إذ".
[15196]:- في ت ، أ : "استغليتم".
[15197]:- في ت ، أ : "سنين".
[15198]:- في ت ، أ : "سنين".
[15199]:- في ت ، أ : "ويدخل".

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ} (48)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدّمْتُمْ لَهُنّ إِلاّ قَلِيلاً مّمّا تُحْصِنُونَ } .

يقول : ثم يجيء من بعد السنين السبع التي تزرعون فيها دأبا ، سنون سبع شداد يقول : جُدوب قحْطه يَأْكُلْنَ ما قَدّمْتُمْ لَهُنّ يقول : يؤكل فيهنّ ما قدمتم في إعداد ما أعددتم لهنّ في السنين السبعة الخصبة من الطعام والأقوات . وقال جلّ ثناؤه : يَأْكُلْنَ فوصف السنين بأنهنّ يأكلهن ، وإنما المعنى : أن أهل تلك الناحية يأكلون فيهنّ ، كما قيل :

نَهارُكَ يا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ *** ولَيْلُكَ نَوْمٌ والرّدَى لكَ لازِم

فوصف النهار بالسهو والغفلة والليل بالنوم ، وإنما يسهى في هذا ويغفل فيه وينام في هذا ، لمعرفة المخاطبين بمعناه ، والمراد منه : إلا قليلاً مما تحصنون ، يقول : إلا يسيرا مما تحرزونه . والإحصان : التصيير في الحصن وإنما المراد منه : الإحراز .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : يَأْكُلْنَ ما قَدّمْتُمْ لَهُنّ يقول يأكلن ما كنتم اتخذتم فيهنّ من القوت ، إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثُمّ يأْتي مِنْ بَعْدِ ذلكَ سَبْعٌ شِدَادٌ وهنّ الجدوب المحول ، يَأْكُلْنَ ما قَدّمْتُمْ لَهُنّ إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثُمّ يأْتي مِنْ بَعْدِ ذلكَ سَبْعٌ شِدَادٌ وهنّ الجدوب ، يَأْكُلْنَ ما قَدّمْتُمْ لَهُنّ إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ : مما تدّخرون .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ يقول : تَخزُنون .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : تُحْصِنُون : تحرزون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَأْكُلْنَ ما قَدّمْتُمْ لَهُنّ إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ قال : مما ترفعون .

وهذه الأقوال في قوله : تَحْصِنُونَ وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيه ، فإن معانيها متقاربة ، وأصل الكلمة وتأويلها على ما بيّنت .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ} (48)

فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الناس الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر ، وادخروا أيضاً الشيء الذي يصاب في أعوام الجدب على قلته ، وحملت الأعوام بعضها على بعض حتى يتخلص الناس ، وإلى هذه السنين أشار النبي عليه السلام في دعائه على قريش :

«اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف »{[6711]} ، فابتدأ ذلك بهم ونزلت سنة حصت كل شيء{[6712]} حتى دعا لهم النبي عليه السلام فارتفع ذلك عنهم ولم يتماد سبع سنين ، وروي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك وأعجبه أمره ، قال له الملك : قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة ، فكان هذا أول ما ولي يوسف .

وأسند الأكل في قوله : { يأكلن } إلى السنين اتساعاً من حيث يؤكل فيها كما قال تعالى : { والنهار مبصراً }{[6713]} وكما قال : نهارك بطال وليلك قائم ؛ وهذا كثير في كلام العرب{[6714]} . ويحتمل أن يسمى فعل الجدب وإيباس البلالات أكلاً ، وفي الحديث : «فأصابتهم سنة َحَّصت كل شيء »{[6715]} ؛ وقال الأعرابي في السنة جمشت النجم ، والتحبت اللحم ، وأحجنت العظم{[6716]} .

و { تحصنون } معناه تحرزون وتخزنون ، قاله ابن عباس ، وهو مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ ، ومنه تحصن النساء لأنه بمعنى التحرز{[6717]} .


[6711]:أخرجه البخاري في الدعوات، وفي الاستسقاء وغيرهما، والترمذي في التفسير، ولفظه كما جاء في باب الاستسقاء في البخاري عن مسروق قال: (كنا عند عبد الله، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة َحَّصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع، فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد، إنك تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، قال الله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} إلى قوله: عائدون* يوم نبطش البطشة الكبرى} فالبطشة يوم بدر، وقد مضت الدخان والبطشة واللزام وآية الروم).
[6712]:من قولهم، حص الشيء: حلقه، وحص الشيء: أذهبه. (المعجم الوسيط).
[6713]:و (86) من سورة (النمل) و (61) من سورة (غافر). تكررت في الآيات (67) من سورة (يونس
[6714]:هو من المجاز العقلي، وأمثلته كثيرة في كلام العرب كما يقول ابن عطية، ومنه قول الشاعر: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم فقد أسند الشاعر السهو والغفلة إلى النهار، والنوم إلى الليل، وذلك لأن السهو والغفلة يقعان في النهار، والنوم يقع في الليل، ولهذه الملابسة الزمانية ساغ الإسناد إلى زمان الحدث، والعلاقة هي الزمانية.
[6715]:هذا جزء من الحديث السابق.
[6716]:يقال: جمش نبات الأرض: حصده، وجمش الشعر: حلقه، والنجم هو النبات. فالمعنى: السنة استأصلت النبات. ويقال: لحب لحم فلان: نحل، ويقال: حجن العود: لواه، فالمعنى أنها أذهبت اللحم وقوست العظم.
[6717]:ومنه قوله تعالى : {ولا تكرهوا بناتكم على البغاء إن أردن تحصنا}، من الآية (33) من سورة (النور).