فلهذا عقب ذلك بقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أخبر تعالى هاهنا أنهم أخذتهم الرجفة كما{[11970]} أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء ، كما أخبر عنهم في سورة " هود " فقال : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ هود : 94 ] والمناسبة في ذلك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا بنبي الله شعيب في قولهم : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] فجاءت الصيحة فأسكتتهم .
وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 189 ] وما ذاك إلا لأنهم{[11971]} قالوا له في سياق القصة : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ [ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{[11972]} ] } [ الشعراء : 187 ] فأخبر أنه{[11973]} أصابهم عذاب يوم الظلة ، وقد اجتمع عليهم ذلك كله : أصابهم عذاب يوم الظلة ، " وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولَهَب{[11974]} ووهَج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس وخمدت الأجساد ، { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } . .
يقول : فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب الرجفة ، وقد بينت معنى الرجفة قبل ، وأنها الزلزلة المحرّكة لعذاب الله . فأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جاثِمِينَ على ركبهم موتى هلكى .
وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإلى مَدْيَنَ أخاهُمْ شُعَيْبا قال : إن الله بعث شعيبا إلى مَدْينَ ، وإلى أصحاب الأيكة والأيكة : هي الغيضة من الشجر وكانوا مع كفرهم يبخَسُون الكيل والميزان ، فدعاهم فكذّبوه ، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن ، وما ردّوا عليه ، فلما عتوا وكذّبوه ، سألوه العذاب ، ففتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم ، فأهلكهم الحرّ منه ، فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء ، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة ، فوجدوا برد الريح وطيبها ، فتنادوا : الظلة ، عليكم بها فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ، انطبقت عليهم ، فأهلكتهم ، فهو قوله : فَأخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمَ الظّلّةِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان من خبر قصة شعيب وخبر قومه ، ما ذكر الله في القرآن ، كانوا أهلَ بخْس للناس في مكاييلهم وموازينهم ، مع كفرهم بالله وتكذيبهم نبيهم وكان يدعوهم إلى الله وعبادته وترك ظلم الناس وبخسهم في مكاييلهم وموازينهم فقال نُصْحا لهم وكان صادقا : ما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُمْ إلى ما أنهاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاّ الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقي إلا باللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة إذا ذكر شعيبا ، قال : «ذَاكَ خَطِيبُ الأنْبِياءِ » لحسن مراجعته قومه فيما يراد بهم ، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم ، وعتوا على الله ، أخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ، فبلغني أن رجلاً من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء لما رآها قال :
يا قَوْمِ إنّ شُعَيْبا مُرْسَلٌ فَذَرُوا ***عَنْكُمْ سَمِيرا وعِمْرَانَ بْنَ شَدّادِ
إنّي أرَى غَيْمَةً يا قومِ قد طَلَعَتْ ***تَدْعُو بصَوْتٍ على صَمّانَة الوَادِي
وإنّكم إنْ تَرَوْا فِيها ضَحاةَ غَدٍ ***إلاّ الرّقِيمَ يُمَشّي بينَ أنجادِ
وسمير وعمران : كاهناهم ، والرقيم : كلبهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : فبلغني والله أعلم أن الله سلط عليهم الحرّ حتى أنضجهم ، ثم أنشأ لهم الظلة كالسحابة السوداء ، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون ببردها مما هم فيه من الحرّ ، حتى إذا دخلوا تحتها أُطبقت عليهم ، فهلكوا جميعا ، ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه برحمته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني أبو عبد الله البجلي ، قال : أبو جاد ، وهوّز ، وحُطي ، وسعفص ، وقرشت : أسماء ملوك مدين ، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب كلمون ، فقالت أخت كلمون تبكيه :
كَلَمُونُ هَدّ رُكْنِي ***هُلْكُهُ وَسْطَ المَحِلّهْ
( والفاء ) في : { فأخذتهم الرجفة } للتعقيب ، أي : كان أخذ الرجفة إياهم عقب قولهم لقومهم ما قالوا .
وتقدم تفسير : { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } في نظيرها من قصة ثمود .
والرجفة التي أصابت أهل مدين هي صواعق خرجت من ظُلة ، وهي السحابة ، قال تعالى في سورة الشعراء ( 189 ) . { فأخَذَهم عذابُ يوم الظلة } وقد عبر عن الرجفة في سورة هود بالصيحة فتعين أن تكون من نوع الأصوات المنشقة عن قالع ومقلوع لا عن قارع ومقروع وهو الزلزال ، والأظهر أن يكون أصابهم زلزال وصواعق فتكون الرجفة الزلزال والصيحة الصاعقة كما يدل عليه قوله : { كأن لم يَغْنَوا فيها } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب الرجفة، وقد بينت معنى الرجفة قبل، وأنها الزلزلة المحرّكة لعذاب الله. "فأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جاثِمِينَ "على ركبهم موتى هلكى...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الرجفة} الزلزلة الشديدة التي ينال معها الإنسان اهتزاز وارتعاد واضطراب.
ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب أهلكت ب {الرجفة} وفرقة بالظلة، ويحتمل أن الظلة و {الرجفة} كانتا في حين واحد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكنه من سنة اللّه الجارية أنه عندما يتمحض الحق والباطل، ويقفان وجهاً لوجه في مفاصلة كاملة تجري سنة اللّه التي لا تتخلف.. وهكذا كان.. (فأخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين).. الرجفة والجثوم، جزاء التهديد والاستطالة، وبسط الأيدي بالأذى والفتنة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والرجفة التي أصابت أهل مدين هي صواعق خرجت من ظُلة، وهي السحابة، قال تعالى في سورة الشعراء (189). {فأخَذَهم عذابُ يوم الظلة} وقد عبر عن الرجفة في سورة هود بالصيحة فتعين أن تكون من نوع الأصوات المنشقة عن قالع ومقلوع لا عن قارع ومقروع وهو الزلزال، والأظهر أن يكون أصابهم زلزال وصواعق فتكون الرجفة الزلزال والصيحة الصاعقة كما يدل عليه قوله: {كأن لم يَغْنَوا فيها}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وما كان الله ليذر المشركين يهددون المؤمنين، ويصدون عن سبيل الله، وهي سبيل الحق، ولذا أنزل تعالى بهم ما أوعدهم، وما تحدوا به شعيبا، أن يأتي به إن كان من المرسلين؛ ولذا قال تعالى: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (91)}.
الفاء هنا السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أنه سبب تكذيبهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله تعالى أخذتهم الرجفة، وهي زلزال شديد، هز ديارهم هزا عنيفا فتهدمت على أهلها، وصاروا مقيمين أمواتا تحت ركامها،
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)}:
والرجفة هي الهزة العنيفة التي ترج الإنسان رجّا غير اختياري، وصاروا بها جاثمين أي قاعدين على ركبهم؛ ولا حراك بهم؛ ميتين، وفي هيئة الذلة. وهذا يدل على أن كلا منهم ساعة أُخِذ تذكر كل ما فعله من كفر وعصيان، وأراد استدراك ما فاته من مخالفاته للرسول، وأخذ يوبخ نفسه ويندم على ما فعل، ولم تأخذه الأبهة والاستكبار، لأن هناك لحظة تمر على الإنسان لا يقدر فيها أن يكذب على نفسه، ولذلك نجد أن من ظلم وطغى وأخذ حقوق الغير ثم يأتيه الموت يحاول أن ينادي على كل من بغى عليه أو ظلمه ليعطيه حقه لكنه لا يجده. ولذلك يسمون تلك اللحظة أنها التي يؤمن فيها الفاجر، لكن هل ينفع إيمانه؟ طبعا لا. في هذه الحالة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وعندما وَصَل أمرهُم إلى الإصرار على ضلالهم، وَعلى إضلال غيرهم أيضاً، ولم يبق أي أمل في إيمانهم وهدايتهم، حلّت بهم العقوبة الإلهية بحكم قانون حسم مادة الفساد، فأصابهم زلزالٌ رهيبٌ شديدٌ بحيث تهاوى الجميع أجساداً ميّتة، في داخل بيوتهم ومنازلهم (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).
وقد مرّ في ذيل الآية (78) من هذه السورة تفسير لفظة «جاثمين» وقلنا هناك أنّه قد استعملت عبارات وألفاظ مختلفة للتعبير عن عامل هلاك هذه الجماعة لا منافاة بينها.
فمثلا: جاء في شأن قوم شعيب في الآية الحاضرة أنّ عامل هلاكهم كان هو: «الزلزال» وفي الآية (94) من سورة هود أنّه «صيحة سماوية» وفي الآية (189) من سورة الشعراء: أنّه «ظلة من السحاب القاتل» وتعود كلها إلى موضوع واحد، وهو أنّ العذاب المهلك كان صاعقة سماوية مخيفة، اندلعت من قلب السحب الكثيفة المظلمة، واستهدفت مدينتهم، وعلى أثرها حدث زلزال شديد (هو خاصية الصواعق العظيمة) ودمّر كل شيء.